د. محمد بن عويض الفايدي
الطلب على الرعاية الصحية في المملكة أخذ في الازدياد بمعدل متزايد نتيجة لارتفاع معدلات النمو السكاني، وزيادة معدلات الدخل، والاتجاه بعد سنوات لزيادة عدد المسنين، وتفشي بعض الأمراض خاصة الناجم منها عن معطيات التحضر والرفاه الاجتماعي.
تأتي الأهداف التنموية للألفية ذات الصلة بالجانب الصحي في ثلاثة أهداف رئيسة تضمنها الهدف الرابع الخاص بخفض نسبة وفيات الأطفال، والهدف الخامس المؤكد على تحسين الصحة الإنجابية (صحة الأمهات)، والهدف السادس المتصل بمكافحة فيروس نقص المناعة البشرية «متلازمة نقص المناعة المكتسب (الإيدز / السيدا)»، والملاريا، والأمراض الخطرة الأخرى.
تساعد الأهداف التنموية للألفية التوجهات الوطنية في تعزيز الاستراتيجيات الهادفة إلى تحقيق الأهداف الأخرى المتفق عليها دولياً خلال القمم العالمية والمؤتمرات الدولية المنعقدة في التسعينات. وتستند الأهداف التنموية للألفية خاصة المتعلق منها بالجانب الصحي على نتائج المؤتمرات الدولية بهذا الشأن؛ فالغايات المتعلقة بالصحة الإنجابية (القاهرة، 1994) والائتمان الميكروي متناهي الصغر (واشنطن، 1997).
يبدو أن الخدمات الصحية تلامس المعدلات العالمية، وقد وصلت المملكة إلى المعدل العالمي للأطباء والممرضين بالنسبة لتعداد السكان، فيما مازالت معدلات الأسرّة المتوفرة في المستشفيات دون المستوى العالمي. وتعتبر منظمة الصحة العالمية أن المعدل المقبول للخدمة الصحية لا يقل عن 23 طبيباً وطبيبة مقابل كل 10000 نسمة من اجل تحقيق معدلات التغطية المقبولة للخدمات الرئيسة للرعاية الصحية الأولية حسب أولويات الإستراتيجية الإنمائية للألفية. أما كوادر التمريض فيقدر بنحو 45 ممرضاً وممرضة لكل 10000 نسمة مع تفاوت عالمي في هذا الصدد. أما عدد الأسرة فإن المتوسط العالمي يقدر بنحو 36 سريراً جميع هذه المعدلات لكل 10000 نسمة. وقد بلغت المملكة 24 طبيباً، 47 ممرضاً وممرضة، 20 سريراً لكل 10000 نسمة. ما يعني أن المملكة تخطت الحد الأدنى للمعدل العالمي فيما يتعلق بالأطباء وطاقم التمريض وما زالت دون المعدل المطلوب في عدد الأسرة. أما فيما يتعلق بالصحة النفسية فلا زالت النظم الصحية والإمكانات الطبية لم تستجب بعد لعبء العلاج والوقاية من الاضطرابات والأمراض النفسية التي تعاظمت مع معطيات التحضر وضغوطات الحياة.
وفي هذا الإطار يبلغ نصيب الفرد من الإنفاق الحكومي على الصحة في الولايات المتحدة ستة أضعاف مستواه للفرد السعودي، حيث يبلغ في الولايات المتحدة 14.8 ألف ريال في عام 2011م، بينما 2.4 ألف ريال في المملكة لذات العام. ويمكن تفسير ارتفاع الإنفاق الحكومي في الولايات المتحدة عنه في القطاع الصحي السعودي، إلى مستوى وجودة الخدمة الصحية المقدمة وشموليتها وتوازنها وتطبيق نظام التأمين الصحي، وتخصيص برامج رعاية صحية خاصة للأطفال وبرامج أخرى لكبار السن فوق 65 سنة.
يعكس التلوث البيئي العالمي والأوبئة والأمراض الخطرة ككرونا وإيبولا والإيدز التي تظهر وتنتشر بشكل سريع وتقف الجهود حائرة أمام السيطرة عليها وعلاجها فضلاً عن إيجاد مصل واق للوقاية منها بداية. إضافة إلى ما يعيشه المرضى من صعوبات في الحصول على الخدمة الطبية، وسوء التشخيص والأخطاء الناجمة عن الممارسة الطبية الخاطئة من الأطباء وكوادر التمريض والصيادلة، والأدوية المصروفة بكميات ونوعيات متعددة لا تتفق وحالة المريض واحتياجاته المرضية.
وفي ذات الوقت هناك معاناة يعيشها الأطباء وطواقم التمريض والفنيين من سوء الإدارة وانحرافها عن مسارها وتبوؤ الأطباء والفنيين للمناصب القيادية الصحية، والذي بدوره افقد التخصص وانحرف بالممارسات الإدارية والقيادية عن الأهداف المرسومة، وبالتالي تشكلت الاتجاهات السلبية عن الخدمات الصحية.
تشكل الرعاية الصحية الشاملة حجر الزاوية في التنمية الوطنية والألفية المستدامة، فصحة الفرد مقياس لقدراته الجسدية والعقلية والنفسية والتي بدورها تحدد حجم إسهامه في بيئته المحلية والمنظومة الدولية، فالأشخاص الأصحاء تزداد فرص مشاركتهم في برامج التنمية وسيكون لهم تأثير مباشر وغير مباشر في أهداف التنمية، ومستوى الخدمة الصحية المقدمة إليه مؤشر قياس للمتحقق من أهداف ومنجزات التنمية التي محورها الإنسان الذي تتناسب قدراته طردياً مع معطيات التنمية، فكلما تلقى خدمات صحية عالية الجودة ارتفعت فرصة وقايته من مخاطر الأمراض والإعاقات والعاهات، وزاد معه معدل العمر الافتراضي، وبالتالي ارتفعت إسهاماته في مجالات وبرامج التنمية المختلفة.
تتحقق المحافظة على المنجزات التنموية عامة والصحية خاصة بجهود القوى البشرية التي تسهم في حماية تلك المنجزات وبمقدار ما يمكث الفرد في مرحلة السوية يتحقق الاستقرار الذي تزدهر فيه التنمية بتحقق الصحة الجسدية والنفسية التي يهددها بوادر الانحراف ويعيق نموها.
يُعد التدريب الوسيلة الأكثر فعالية لرفع كفاية الأداء، والأداة الفعالة لتقريب الفجوة بين الأهداف المخططة مسبقاً والمنجزة فعلاً، وتمر وزارة الصحة باختلالات وتشوهات هيكلية في كيانات التدريب وأجهزة تنفيذه، فلم يعد هو رؤية ورسالة وهدف عن كونه وسيلة للحصول على المستحقات المالية. والذي بدوره يتطلب مراجعة جذرية لمعالجة الاختلالات ومواجهة التشوهات وإعادة النظر في منهجية وسياسات التدريب وآليات تنفيذه، والجهات والمراكز المنفذة لبرامجه وتوحيدها في الجهات الأكاديمية التي تمتلك كفايات تدريبية ومهنية متخصصة تنطلق من تقنيات صحية خاضعة للرقابة من الهيئات الصحية المحلية والدولية.
إن الأرواح البريئة التي أُزهقت، والأعضاء التي بُترت، والحواس التي فُقدت، وإمكانية الإنجاب التي سُلبت بسبب أخطاء طبية وممارسات خاطئة ما هي إلا نتيجة لعدم فاعلية برامج التدريب - التي بحاجة إلى معالجة جادة وجذرية -، وانحراف التدريب عن أهدافه، والاعتماد في تصميم برامجه على غير الكفاءات المتخصصة، وتنفيذه تحت مظلة غير متخصصة من خلال سماسرة التدريب والمؤسسات الصورية في تنفيذ برامجه.
يعتمد تطوير القطاع الصحي السعودي على الإرادة الجادة من القيادة الوزارية الجديدة التي يُنتظر منها تخطي التحديات والعقبات في شغل المناصب القيادية الصحية، وتحسين المعايير والضوابط في إرساء العطاءات وتوريد المعدات والتجهيزات الطبية والأدوية وتجاوز المنافع المادية من وراء إرسائها على جهة دون أخرى. ولعل معالي وزير الصحة أ. أحمد بن عقيل الخطيب يعول عليه إحداث نقلة نوعية في القطاع الصحي السعودي وفي كافة الخدمات الطبية التي يتطلع إليها المواطن والمقيم على أرض هذا الوطن لما يتمتع به من تجربة إدارية ثرية وإمكانات وخبرات مهارية متميزة تم صقلها في بيئات متخصصة وعبر مهام متعددة.
إن التفكير في جمع شتات الجهود الصحية المبعثرة عبر مرافق مدنية وعسكرية مختلفة أمر أصبح واجب النظر، لتوحيد الجهود وتعظيم الاستفادة من الموارد المالية والبشرية والتجهيزات والمعدات والتقنيات والمرافق الطبية، ولبسط عملية المتابعة والرقابة والتقييم والتقويم, وخفض فرص التجاوزات في الصفقات وإرساء المشروعات وتأمين المستلزمات الطبية.
الميزة التنافسية للمملكة برعاية الحرمين الشريفين وخدمة حجاج بيت الله الحرام والمعتمرين، وزوار مسجد الرسول «عليه الصلاة والسلام» باستقبال القادمين من مختلف قارات العالم بما فيها القارة الإفريقية التي ينتشر فيها مرض إيبولا ويصل أعداد كثيرة منهم إلى المملكة في مواسم العبادة يصعب معه التحرز من تسلل الفيروس، إضافة إلى بعض الإصابات بفيروس كورونا الذي يزداد انتشاره مع الازدحام، مما يشكل تحدياً لإدارة القطاع الصحي بالمملكة. وبالتالي على الإستراتيجية الصحية السعودية أن تستجيب لهذا التحدي وتتغير في سياق هذه المخاطر الصحية وفي نسق تحضر المجتمع السعودي الذي على وزارة الصحة أن تراعي هذا البعد مع الأبعاد الأخرى ذات الصلة بالأمراض المستحدثة وتقنيات علاجها والأجهزة والمختبرات النوعية اللازمة لتحليلها ومستوى التأهيل والتدريب للكوادر البشرية التي تقدم الخدمة الطبية لها.
يبدو أن التأمين الصحي التعاوني الشامل أضحى معطى لا يمكن تجاوزه، فتحديات القطاع الصحي وتداخل وتعقد مشكلاته التراكمية والبحث في تخطيها قد يمتد وقته، ويمكن اختصاره بتبني التأمين الصحي وتكثيف التوعية بمميزاته عبر مؤسسات المجتمع الدينية والإعلامية والثقافية والاجتماعية والإشراف على تنفيذه بمهنية صارمة باعتباره ثقافة صحية تستند إليها أكثر الدول تقدماً، ونجاحها مرهون بالقدرة على جودة الاختيار والمتابعة والتقييم والتقويم.
والتأمين الصحي في المملكة آخذ في التطور إلا أن تغطيته للمواطنين لم تزل محدودة بالمقارنة ببعض الدول المتقدمة.
تصل نسبة تغطية إجمالي السكان بالتأمين الصحي إلى نحو (100%) في بعض الدول مثل السويد والدانمارك ونيوزيلندا وبريطانيا وإسبانيا وسنغافورة واليابان. ولعل النظام الطبي الفرنسي يحتل مكانة مرموقة بين نظم العالم المتقدم ويمكن الاستناد إليه كنموذج لإحداث نقلة نوعية في الخدمات الصحية السعودية لما يوفره من خدمات صحية متكاملة ذات جودة تشمل كافة الفئات ضمن منظومة متدرجة من شأنها الرفع من جودة وشمولية وكفاءة الخدمات الصحية بما يعكس تطلعات القيادة السعودية الجديدة والتنظيمات الإدارية الحديثة التي واكبتها.