د.هلال بن محمد العسكر
لماذا استنكر الإعلاميون في القصيم الأسبوع الماضي تهرب وزير الصحة من مقابلتهم والإجابة على أسئلتهم وإعطائهم تصريح كمادة لوسائل الإعلام؛ كالمعتاد في المناسبات الرسمية التي يشرفها كبار المسؤولين؟.. قبل الإجابة على هذا السؤال،
دعونا نعرف معنى وأهمية التصريح؛ فكلمة «تصريح» مشتقة من الصراحة أو الصراح، والصراح لغة هو المحض الخالص من كل شيء، فيقال الماء الصراح؛ أي النقي أو العذب، فالتصريح معناه قول الصراحة دون تلميح، وهو برتوكول يخبر فيه المسؤول وسائل الإعلام أخباراً صحيحة ومؤكدة، أو يفصح فيه عن موقف أو رأي معين، ينم عن علمه وإحاطته بما يقول، وتكمن أهميته في قطع دابر التخمين والإشاعات.
حقيقة لو كنت مكان معاليه، ما تهربت، وواجهت الإعلاميين المحتشدين لمعرفة «الحقيقة» بالحقيقة التي لدي، أو الاعتذار عن التصريحات علناً دون تهرب، أو التصريح مع ممارسة فن «التعريض في الكلام» الذي يستخدمه الأذكياء من أصحاب الدبلوماسية؛ وهو ما يقابل التصريح، وهو ليس بكذب؛ بل هو كلام له وجهان، أو عدة أوجه، ويكون قصد المتكلم منه أن يفهم السامع خلاف ما يقصده هو.
وقال ابن منظور في لسان العرب: والتعْرِيضُ خلاف التصريح، والمَعارِيضُ التَّوْرِيةُ بالشيء عن الشيء. وقد ثبت استعماله في السنة وعن السلف الصالح -رضي الله عنهم-، ومن ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن أنس قال: مات ابن لأبي طلحة ولم يعلم به فقال: كيف الغلام؟ فقالت أم سليم: هدأ نَفَسه وأرجو أن يكون قد استراح..، فظن أبو طلحة أنه تعافى أو شفي.. ومثال هذا كثير. ولذلك فإن التعريض مثل غيره من الكلام لا حرج في استعماله فيما يجوز.
يبدو أن معالي الوزير لا يحبذ التعريض في الكلام، ولديه قناعة أن الصمت حكمة، وأنه قليل فاعله، أو أنه لا يريد أن يتحمل مسؤولية كلام يحاسب عليه وهو لا يملك دليلاً على مصداقيته، أو أنه صادق ويعرف أن الحقيقة مرة وغير مرضية، وفضل الهروب على العت واللت واللف والدوران والكذب، أو أيضاً أنه رأى أن الناس بتصريحه سيزدادون خلافاً واختلافاً، وفضل الهروب على التسبب في صراع (مناطقي) على مشروعات تم اعتمادها ولا مجال في تغيير مسارها، أو أنه يرى أن التصريح فيه إفشاء لبعض الأسرار التي لم يحن الوقت بعد للتصريح عنها، والاحتمال الأخير أنه لا يؤمن إطلاقاً أنه لزاماً على المسؤول، أن يلتقي الإعلاميين ويطلق التصريحات بعد كل مناسبة، وأن العمل هو الذي يصرح عن نفسه أو غير ذلك من المبررات والأسباب.
عموماً، مهما تكن الأسباب، علينا أن نمنح وزراءنا الشباب المزيد من الوقت، وعدم التسرع في إطلاق الأحكام لمجرد تصرف له تفسيرات عدة تختلف باختلاف أصحابها وطريقة تفكيرهم ونظرتهم للأمور، وعلينا أن نتعلم منهم الجديد ونعينهم ولا نحاول ترويضهم على ما اعتدناه، سواء في العلاقة مع الإعلام أو غيره؛ لأن تعيينهم في الأساس هو للتغيير والتطوير والتجديد والإبداع.
ختاماً، أرى أن الحراك الإعلامي الذي أحدثه هروب معالي الوزير من التصريحات الإعلامية في القصيم، صار أهم من تصريحاته التي قد لا يكون فيها ما يثير مثل هذا الحراك، وأنا هنا لا أدافع ولا أبرر لمعاليه، وإنما أدلو بدلوي الفكري كمواطن في موضوع أثار الرأي العام.