إبراهيم عبدالله العمار
صنع عالمٌ تجربة شائقة، قسم طلابه الشباب إلى فريقين وطلب من كل منهما تشكيل جُمَل تتكون من أربع كلمات، وأعطاهم كلمات معينة ليُرتبوها ويصنعوا منها جملة صحيحة. أحد الفريقين حصل على كلمات تتعلق بالشيخوخة مثل «تجاعيد» و»كثير النسيان»، والفريق الآخر له كلمات غيرها. بعد تركيب الجُمَل كان عليهم أن يمشوا قليلاً ليكملوا مهمة أخرى. هذا المشي هو بيت القصيد ولم يعرف الطلاب ذلك، وهنا حصل الاكتشاف لما راقب العالِم مشيهم: الطلاب الذين تعرضوا لكلمات الشيخوخة مشوا للمكان المقصود .. لكن بشكلٍ أبطأ من الفريق الآخر!
منذ عشرات السنين نادى بعض أخصائيي النفس بدراسة العقل الباطن.. دراسة تأثيره على الإنسان وكذلك تأثير العوامل على العقل الباطن نفسه، وحصلت بعض الضجة في الغرب لما اتُّهِم بعض المُعلِنين أنهم يضعون رسائل دون الوعي في إعلاناتهم، وكلمة «دون الوعي» تعني ما دون ملاحظة العقل الواعي المباشرة للرسالة، لكن يلتقطها العقل الباطن ويتأثر بها، وتضاربت الأقوال في صحة نظرية تأثير رسائل دون الوعي subliminal messages على العقل، حتى طُبِّقَت تجارب كثيرة منها التجربة المذكورة بالأعلى وأظهرت صحتها: إن العقل البشري يمكن التأثير عليه بسهولة بدون أن يدري.
وهذه فكرة التجهيز priming، وتعني تأهيب وتجهيز النفس البشرية لأن تفكر أو تتصرف بطريقة معينة وذلك بتعريضها لأشياء معينة ذات علاقة، فمن التجربة بالأعلى كان مجرد تعريض الشباب لكلمات متعلقة بالشيخوخة كافياً لأن يجعلهم لا شعورياً يحاكون المسنين في بطء المشي. وقد عُكِسَت التجربة في جامعة أخرى في جامعة ألمانية لما طُلب من الطلاب أن يمشوا 5 دقائق بسرعة أبطأ بكثير من سرعتهم، وبعدها صارت هذه الفرقة أسرع في تمييز كلمات متعلقة بالشيخوخة مثل «مُسنّ» و «وحيد» و»نَسيٌّ».
سرعان ما استُغِلَّت هذه الطبيعة من قِبل الاستغلاليين، كما يفعل الكثير من المعلنين الآن. مثال آخر: هل تظن أن التصويتات قائمة على الموضوعية؟ تظن أن الذي يصوتَّ لشيء ما أو مُرشّحٍ ما فإن هذا يعكس آراءه وقيمه؟ خطأ. هناك عوامل مؤثرة في قراره لا يدري عنها. مثلاً، مكان التصويت والانتخاب يؤثر. في ولاية أريزونا الأمريكية عام 2000م ظهر أن وضع مكان التصويت في مدرسة زاد عدد الذين وافقوا على دعم زيادة تمويل المدارس، غير من كان مكان تصويتهم في مكان آخر. تجربة أخرى أظهرت أن تعريض الناس لصور فصول دراسية و خزانات مدرسية زاد من رغبتهم في مساندة قوانين تدعم المدارس. بل إن تأثير الصور كان من القوة بحيث جعل غير ذوي الأبناء يصوّتون كما يصوت الآباء والأمهات، فقط لأنهم رأوا صوراً من مدرسة!
إن التجهيز قوي ويؤثر على كل جوانب حياتنا، والتجهيز نقطة من بحر العوامل التي يَحفل بها العقل الباطن.