فوزية الجار الله
أتساءل أيهما أفضل أن تكتب في زمن الصخب، البرق والرعد والريح التي لا تبقي ولا تذر أم في زمن الاستقرار والهدوء والسكينة؟!
بالطبع لا أقصد بالصخب صخباً آنياً يشبه الطنين حولك مثلاً أن تصحو على صراخ يتصاعد من منزل الجيران زوجان يختصمان وطفلٌ يبكي لأمر لا تعلمه وأبواب تصطفق خلف أبواب، أو على صعيد آخر لا يقل سوءاً أن تصحو على صوت آلة حفر عملاقة تعمل بكل ما فيها لاختراق طبقات الصخر والأسفلت ليصدر عن ذلك هديراً هائلاً يزلزل أعشاش العصافير عندها تتبعثر أفكارك وتختلط فلا تدري عند أي كلمة توقفت ولا أي فاصلة كنت تناجيها منذ قليل.. لكنني أقصد بالصخب الأوضاع السياسية العالمية الهادرة غير المستقرة، أن تتأمل فترى بأن الفضاء أصبح يفيض بالزيف والأكاذيب، كان يمكن ألا يعنيك ذلك لكن الأمر ليس بمثل هذه البساطة، لأنك كاتب فأنت معني بما حولك معني بالضجيج والسكينة معاً بالخوف والأمان بالحرية وبعكسها.
لذا فأنت تبحث عن أجواء أكثر هدوءاً ووضوحاً كي تكتب بمصداقية ما هو جدير بالقراءة، ذلك سيضمن لك احتراماً لكتابتك التي هي روحك وهوية وجودك وانتماؤك لبني البشر.
أمام الصخب أصبح مسكونة بالتأني والتأمل، وفي هذا السياق تبادر إلى ذاكرتي أجمل ما قرأت ليكون واحة نستريح بها معاً قارئي العزيز من تلك الأصوات النشاز التي تملأ البحر والفضاء، مثلما نقيق لضفادع شرسة لا هوية ولا انتماء لها.
* * *
من أجمل ما قرأت:
ربما لا يكون ثمة مناسبة محددة لما أود أن تشاركوني قراءته سوى الجمال الذي يبقى بعد أن يغيب الألم وينطفئ الغضب وتبقى الحكمة والرغبة في فعل أقوى وأكثر عقلانية:
** محمود درويش شاعر عظيم يمنح المفردات ضوءاً وألقاً جديداً حين يغرّد بإحدى قصائده وهو لا يقل تفوقاً وروعة حين يكتب، كتب كثيراً في رثاء صديقه الراحل غسان كنفاني، ورغم مضي زمن طويل على هذه الكتابة إلا أنها بقيت صامدة شامخة حتى هذا اليوم:
(نحن الذين كنا نكتب ما سمّاه غسان «شعر المقاومة» لم نكن نعرف أننا نكتب «شعر مقاومة» وقد دهشت، قبل سواي، بهذا الشغف السياسي بما نكتبه. كل شيء قابل للتفسير كأن نقول: مرحلة تاريخية معينة انفتحت فيها النفسية العربية الجريح على تقديس كل ما يَرد من أرض فلسطين. ولكن... ولكن بعضنا داخ من اللذة، وبعضنا صار يصمّم القصائد لحناجر المذيعين، وبعضنا خاف المسؤولية وقلِق. وبعضنا أدرك أنها موجة وتنكسر ولا يبقى من هذا الزبد غير الشعر الحقيقي. ويومها... يومها كتبت: «أنقذونا من هذا الحب).
ويقول أيضاً: (إني أمجّد البسمة الكاذبة التي كنت تقابل بها الأشياء - وهي باطلة كلها - فمن عرف فلسطين تاب عن السعادة. وفلسطين التحمت بخلاياك. تبتسم لسواها كالعاشق المخدوع الذي يتحايل على الخيانة، ويحاول الهرب من قلبه.
لم تَكُنْ رَجُلاً
كنتَ إنسانيَّةً..).