اللواء الركن د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
وصولاً إلى الدور الثالث في عهد المؤسس الباني والد الجميع، الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود، عام 1319هـ (1902م) مروراً بعهود أبنائه الكرام البررة، الذين حملوا مشعل الرسالة من بعده، الملوك: سعود، فيصل، خالد، فهد، عبدالله، وحتى هذا الفجر الجديد، بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود، -حفظه الله ورعاه-، الذي تقدم لحمل الأمانة ومواصلة مسيرة هذه الرسالة الخالدة في ثقة واقتدار، أدهش الأصدقاء قبل الخصوم والمناوئين، مؤكداً للعالم أجمع أن العرين مازال يعج بأسود لا تهاب الردى، قادرة على مواصلة المسيرة بالزخم نفسه، والبريق ذاته، ومستعدة لتحمل هذه المسؤولية العظيمة إلى الأبد إن شاء الله، مادامت متمسكة بهذا الدستور العظيم: كتاب الله العزيز الحميد، الذي لا يأتيه الباطل أبداً، وسنّة رسوله الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى.
ولهذا، اهتمت القيادة السعودية منذ عهد الملك عبدالعزيز، -طيب الله ثراه-، بخدمة الحرمين الشريفين وتوسعتهما ورعايتهما.. صحيح؛ أن الحرمين الشريفين شهدا على امتداد أربعة عشر قرناً تطوراً معمارياً مستمراً على مر العصور، إلا أن القيادة السعودية المتعاقبة، قد قطعت على نفسها وعداً لا يقبل أنصاف الحلول تجاه إعمار الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، منذ تأسيس هذه الدولة السعودية المباركة، على يد المؤسس الباني، الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود حتى اليوم، وسوف تستمر الرعاية والعناية بهما دوماً إن شاء الله، لأنهما جوهر رسالتنا.
لقد انطلقت العناية بهما في عهد المؤسس مبكراً، إذ أمر عام 1344هـ (1915م) بصيانة المسجد الحرام وإصلاحه. وفي عام 1368هـ (1948م) قرر الملك عبدالعزيز توسعة الحرمين الشريفين وإعادة عمارة بعض أجزائهما، بدءًا بالمسجد النبوي الشريف. وفي مطلع عام 1373هـ (1953م) أدخلت الكهرباء، وتمت إضاءة المسجد الحرام وزود بالمراوح الكهربائية، ثم واصل أبناؤه من بعده مسيرة الخير القاصدة، إدراكاً منهم أن خدمة الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، أمانة عظيمة ومسؤولية جسيمة، بل هي جوهر رسالة هذه الأسرة المالكة المباركة، وهذه البلاد الطيبة وشعبها الوفي النبيل. فمن أجل حماية العقيدة وخدمة الحرمين الشريفين وتأمينهما للحجاج والمعتمرين والزائرين، جاء عبدالعزيز وأسس هذه الدولة المباركة، امتداداً لرسالة آبائه وأجداده. فحظى الحرمان الشريفان والمشاعر المقدسة باهتمام بالغ وعناية فائقة، على امتداد عهود الملوك: سعود، فيصل، خالد، فهد وعبدالله، يرحمهم الله ويسكنهم فسيح جناته، استمراراً للتوسعة المتصلة وتجهيز الساحات الخارجية وإدخال نظام التكييف ونظام إطفاء الحرائق، وتصريف مياه الأمطار والسيول، وغير هذا من خدمات أخرى عديدة تجل عن الوصف.
أما في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك الصالح عبدالله بن عبدالعزيز، فقد شهد الحرمان الشريفان عناية فائقة، شملت جميع النواحي العمرانية والفنية والأمنية، إذ شهد الحرم المكي الشريف أضخم توسعة له في تاريخه على الإطلاق، قسمت إلى ثلاث مراحل لضخامتها. هدفت المرحلة الأولى لتوسعة الحرم ليستوعب مليوني مصلٍ في وقت واحد، ووجهت المرحلة الثانية إلى توسعة الساحات الخارجية التي تضم دورات المياه والممرات والأنفاق ومرافق خدمية أخرى، لتسهيل دخول المصلين والزوار وخروجهم بسهولة دون تدافع وازدحام، إضافة إلى توسعة صحن الطواف. في حين عنيت المرحلة الثالثة بتطوير منطقة الخدمات التي تعد إحدى أهم المرافق المساندة، التي تشمل محطات التكييف ومحطات الكهرباء، إضافة إلى محطات المياه وغيرها من المرافق التي توفر الدعم اللوجستي اللازم لمنطقة الحرم المكي الشريف. فضلاً عن ساعة مكة، تلك التحفة المعمارية الفريدة، التي تنتصب شامخة تزين سماء أم القرى، مؤكدة للعالم أجمع أنه ثمة عزيمة قائد هنا لا تلين، وعقول لا تكف عن التفكير لتحقيق الخير وخدمة المسلمين ونفع الناس أجمعين. وهي كما يعلم الجميع، أكبر ساعة في التاريخ وأعظمها، فاق حجمها حجم أكبر ساعة عرفها الناس في العالم وأشهرها بخمسة وثلاثين ضعفاً، توفر اليوم خدمة عظيمة لنحو ملياري مسلم في مشارق الأرض ومغاربها، يولون وجههم شطر المسجد الحرام خمس مرات يومياً لضبط مواقيت صلواتهم؛ هذا بالطبع إضافة إلى ما شهده الحرم النبوي الشريف في المدينة المنورة من عناية واهتمام.
وبجانب خدمة الحرمين الشريفين، أولت المملكة العربية السعودية، عناية كبيرة لقضايا الأمتين الإسلامية والعربية كما تقدم، أبرزها قضية فلسطين التي تعد القضية المحورية الأولى في اهتمام قادة السعودية وشعبها العربي المسلم النبيل، إضافة إلى قضية أفغانستان والبوسنة والهرسك وقضايا الأقليات المسلمة حيثما كانت. كما دعمت المنظمات الإسلامية كرابطة العالم الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي والندوة العالمية للشباب الإسلامي. ونشطت أيضاً في مجال الدعوة وحملت همها، فأنشأت العديد من المدارس الملحقة بالمساجد والمراكز الإسلامية ومعاهد الأبحاث والدراسات الإسلامية والمدارس والمعاهد والجامعات، وقدمت العديد من المنح الدراسية والتدريبية للطلاب المسلمين في شتى بقاع الأرض، إضافة لإنشاء مراكز الدعوة والإرشاد في كل أرجاء البلاد. والاهتمام بطباعة كتاب الله، وتنظيم حلقات ومسابقات محلية وعالمية لحفظه وتجويده، إضافة لمسابقات السنّة النبوية الشريفة.
وبجانب اهتمامها بحل قضايا العرب والمسلمين، كانت المملكة العربية السعودية، على امتداد تاريخها الطويل الحافل بالعمل والإنجاز، يد خير لكل شعوب العالم، ولا يتسع المجال هنا لرصد تلك الجهود التي شهد بها القاصي والداني.
الفرح الذي أطل:
أما هذا المحور، فلا أكتم القارئ الكريم سرّاً، أنه كان أصعب محاور مقالي هذا، لأنه يتعلق بشخصية ثرّة، صاحبها متعدد المواهب والقدرات، بجانب شخصيته الإدارية الفذة، مما جعل الكل يحتار عند الحديث عنه، فلا يدري من أين يبدأ، أو إلى أين ينتهي.. لن أطيل في هذه المقدمة، لأنني على يقين تام أن كل واحد منكم يعرف أكثر مما يمكنه أن يقوله أي واحد منّا عن سيدي خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، -حفظه الله ورعاه وأدام تأييده وتوفيقه ومتعه بالصحة والعافية-، الذي ما يذكر إلا يذكر الوفاء. وقد حاولت جاهداً من قبل وصف وفاء سلمان في أكثر من مقال، وبالطبع عجزت، كما يعجز كل من يحاول سبر غور وفاء سلمان، معلّم الناس الوفاء. فاكتفيت في مقال سابق نشر بجريدة الجزيرة، الخميس 23-5-1434هـ، الموافق 4-4-2013م، العدد 14798، ص 28، بالتأكيد على أن سلمان أوفى من الوفاء، وإن كنت على يقين تام أيضاً أن هذا لا يكفي للتعبير عن حقيقة وفاء سلمان وما تجيش به نفوسنا تجاهه من حب وتقدير ووفاء وإخلاص، إلا أنه يبقى جهد المقل كما يقولون.
حدثتكم في المقال الذي أشرت إليه بعنوان (سلمان.. أوفى من الوفاء) عن أربعة صور فقط، اقتضتها المناسبة، اخترتها من قائمة طويلة من صور وفاء سلمان، تصلح كل واحدة منها، ليس لمقال منفصل فحسب، بل لمجلد كامل. واليوم أقدم لحديثي عن هذا الفرح الذي أشاعه وجود سلمان بيننا، بخمس صور:
الصورة الأولى:
تعد هذه الصورة من أكثر صور وفاء سلمان التي تختزنها ذاكرة السعوديين، تلك هي صورته وهو يقبّل رأس أخيه الراحل الكبير، خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، -رحمه الله-، في روضة خريم، عقب جلسة مجلس الوزراء التي أجيزت فيها ميزانية عام 1434- 1435هـ (2013م) يوم الاثنين 20-2-1435هـ، الموافق 23-12-2013م، تعبيراً عن الاحترام والتقدير وهذا الحب الفيّاض والإخلاص والوفاء، الذي استوطن نفس سلمان الكبيرة وعقله الواسع وقلبه الكبير، الذي ينبض بكل القيم الإسلامية الأصيلة والشيم العربية النبيلة.
والحقيقة، الأمر ليس مقتصراً على تلك المناسبة، إذ أكاد أجزم أن سلمان يفعل الشيء ذاته كلما التقى أخيه الكبير فقيد الجميع عبدالله. وربما تلك الصورة هي فقط التي ظهرت للإعلام.. راجعوا الصحف التي نشرت في اليوم التالي وهي تزيّن صفحاتها الأولى بتلك الصورة الفريدة في مدرسة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله ورعاه-، وإني على يقين أنكم لن تستطيعوا حبس دموعكم. وسوف تدركوا صحة حديثي: كل صورة لوفاء سلمان، ليس أكبر من ألف كلمة فحسب، بل أكبر من مجلد تام كامل.
الصورة الثانية:
هي صورة مركبة من عدة صور، كانت الصحف تحملها إلينا في صفحاتها الأولى طيلة أيام مرض الراحل الكبير الملك عبدالله رحمه الله الأخيرة، إذ دأب الملك سلمان على زيارة أخيه يومياً للاطمئنان على صحته، حتى في ظل مشاغله العديدة التي ضاعفها مرض الملك عبدالله وعدم قدرته على العمل. وهنا لا بد أن أشير إلى شيء مهم، يؤكد هذا الوفاء والاحترام المتبادل بين آل سعود عموماً، وأبناء الملك عبدالعزيز خصوصاً، إذ قال الملك سلمان في معرض حديثه عن الملك عبدالله في برنامج وثائقي بثته الفضائيات في اليوم التالي لرحيل الملك عبدالله، إنه كان وفياً لأخيه الملك فهد. ولم يحدث أن وقع أمراً باسمه نهائياً طيلة مرض الملك فهد. وقد لاحظنا اليوم أن الملك سلمان أيضاً سار على النهج ذاته، فأصدر حتى الأمر الأخير الذي سبق وفاة الملك عبدالله بيوم واحد، باسم أخيه الملك عبدالله، ولم ينسبه إليه.
الصورة الثالثة:
صورة تاريخية نادرة، تشكل وثيقة مهمة ترسخ وفاء الملك سلمان في الأذهان، حملتها إلينا الفضائيات بعيد ترجل الفارس عبدالله وامتطاء الفارس سلمان صهوة الجواد، وهي تؤكد مدى الحزن المؤلم حقاً الذي يعتصر قلب الملك سلمان، وهو ينعي للشعب والأمة والعالم، رحيل أخيه الملك عبدالله، إذ يقول: (... بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، ومليئة بالحزن والأسى، أتوجه إلى الشعب السعودي الوفي والأمة العربية والإسلامية بالعزاء في فقيد الأمة الغالي خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله، رحمه الله...) وقد رأينا كلنا صدق ذلك الحزن وفداحة الأسى الذي كان يرتسم على وجه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، فأشفقنا عليه، حتى مع إدراكنا قوة إيمانه ويقينه بربه، وقدرته على الصبر والجلد، لأننا خبرناه من قبل في أكثر من فاجعة مؤلمة مرت به، فوجدناه دائماً كما عهدناه: مؤمناً صادقاً قوياً، رابط الجأش، قوي العزيمة.
والعجيب الغريب الذي لم استطع أن استوعبه حقاً، هو أن السواد الأعظم من دول العالم الثالث، لاسيما في عالمنا العربي، يعيش اليوم حروباً أهلية دائمة بسبب التكالب على السلطة والاستئثار بالثروة، والأمثلة أكثر من أن تحصى، في الوقت الذي يعتصر الحزن والأسى عندنا قلب من تأتيه السلطة مختالة تجرجر أذيالها عند رحيل سلفه. عودوا بالذاكرة قليلاً إلى صورة الملك سلمان وهو يغالب الدمع أثناء نعيه أخيه الملك عبدالله.. أسأل الله سبحانه أن يهدي أولئك الذين يتقاتلون اليوم في أكثر من بلاد من عالمنا العربي، فحولوا بلدانهم إلى مليشيات متناحرة غيّبت معنى الدولة، أن يتأملوا هذه الصورة في حياة سلمان.. فلربما خجلوا من أنفسهم وعادوا إلى رشدهم، وجنبوا بلدانهم وشعوبهم كل تلك الولايات والدمار.
الصورة الرابعة:
هي أيضاً صورة مركبة، تماماً كالصورة الثانية، حملت إلينا ملامح الحزن والأسى الذي علا محيا الملك سلمان وهو يؤدي صلاة الجنازة على أخيه الراحل الملك عبدالله، ويفاجئ آلات التصوير هذه المرة أيضاً عندما رافق جثمان أخيه إلى المقبرة في سيارة الإسعاف، وحمل نعشه مع أبنائه وأحفاده، وكان أول من هال التراب على قبره، ثم يعود إلى قصر الحكم مساء اليوم نفسه، مع ما يعتصر قلبه من أسى وألم، فيستقبل جموع المعزين والمبايعين الذين تدفقوا كالطوفان، في يوم استثنائي في تاريخ السعودية، يعانق فيه الحزن الفرح في مشهد مهيب. فقد عرفنا العالم منذ بزوغ فجر دولتنا الأولى على يد الإمام محمد بن سعود، أننا أمة قوية بالله، قادرة به على تجديد أفراحها في يوم أحزانها، ولعمرى تلك بصمة سعودية خالصة، أدهشت العالم على مر التاريخ، كما أدهشه ملوك السعودية الذين يودعون أسلافهم بالحزن والأسى والدموع والألم الذي يعتصر القلوب، مع أن رحيل السلف يتيح المجال، حسب دستور البلاد ونظامها، للخلف تولي سدة الحكم، فأي وفاء وأي احترام وأي تقدير وأي نعمة تلك التي منّ الله بها علينا، فضمنت لنا استقرار بلادنا وتلاحم شعبها النبيل مع قادته الأوفياء المخلصين، ومن ثم استمرار مسيرة الخير القاصدة إلى الأبد إن شاء الله.
الصورة الخامسة:
هي أيضاً صورة مركبة من عدة صور، غير أنها تختلف عنهما في أنها صورة حسية مدهشة، ففي اللحظة التي صعدت فيها روح فقيدنا الغالي الملك عبدالله، لملم سلمان أحزانه وخاطب الشعب والأمة معزياً ومطمئناً على استمرار مسيرة الخير القاصدة، مؤكداً أن في العرين أسوداً تستمد العون من الله، ثم من الشعب المخلص الوفي، للمضي قدماً على خطى المؤسس: (.. أيها الإخوة والأبناء المواطنون والمواطنات: إنني وقد شاء الله أن أحمل الأمانة العظمى، أتوجه إليه سبحانه مبتهلاً أن يمدني بعونه وتوفيقه، وأسأله أن يرينا الحق حقاً وأن يرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه. وسنظل بحول الله وقوته متمسكين بالنهج القويم الذي سارت عليه هذه الدولة منذ تأسيسها على يد الملك المؤسس عبدالعزيز، رحمه الله، وعلى أيدي أبنائه من بعده، رحمهم الله. ولن نحيد عنه أبداً، فدستورنا هو كتاب الله تعالى وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم...).
ساعتئذٍ تهللت أسارير السعوديين والسعوديات، واعتلت محياهم موجة فرح عارمة، حتى في حضرة الحزن والأسى والألم الذي تركه رحيل الفقيد الكبير الملك عبدالله، وتلك هي اللحظة التي أشرت فيها إلى قدرة السعوديين على تجديد أفراحهم في يوم أحزانهم. لقد ضمن لنا الملك سلمان بن عبدالعزيز استقرار الحكم في بلادنا، فلا فراغ دستوري، ولا طوارئ ولا لجان أممية أو محلية، ولا مشاورات في غرف مظلمة ولا محاصصة أو ترضيات من أي نوع، كما يحدث اليوم في أكثر من بلاد حولنا، ظلت لسنين ولجانها تنفض لتجتمع من جديد للاتفاق على رئيس للدولة أو للحكومة أو حتى لوزارة من الوزارات، بغض النظر عن الكفاءة المهنية المطلوبة.
ثم يفاجئ الملك سلمان المفاجأة ويدهش الدهشة، فيصدر ستة أوامر ملكية كريمة في اليوم ذاته الذي ترجل فيه الفارس عبدالله، واعتلى الفارس سلمان صهوة الجواد، تضمنت تعيين صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز آل سعود وليّاً للعهد، نائباً لرئيس مجلس الوزراء، وتعيين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز وليّاً لولي العهد، نائباً ثانياً لرئس مجلس الوزراء، مع استمراره وزيراً للداخلية، وتعيين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز وزيراً للدفاع، رئيساً للديوان الملكي. ثم أردف تلك القرارات بعد ستة أيام فقط، بأربعة وثلاثين قراراً ملكياً كريماً، أعادت تشكيل مجلس الوزراء ودمجت وزارتي التعليم العالي والتربية والتعليم في وزارة واحدة، وتعيين أمراء مناطق، إضافة إلى إلغاء عدد من اللجان والمجالس العليا، وإنشاء مجلس للشؤون السياسية والأمنية وآخر للشؤون الاقتصادية والتنمية. ودفقت في الوطن الغالي على قلب سلمان، مائة وعشرة مليارات ريال لمساعدة الناس ودعم مشروعات تنموية عاجلة، فكانت تلك علامة فارقة، ليس في الحكم السعودي فحسب، بل في الحكم في العالم كله. ففي الوقت الذي ينتظر فيه المراقبون في بلد كأمريكا نفسها، التي هي أعظم دولة في العالم اليوم، مرور مائة يوم ليبدوا رأيهم في قرارات الرئيس الجديد، أدهش سلمان العالم بسبعة قرارات في كل يوم من أيام حكمه السبعة الأولى.. فأروني أي حاكم في العالم حقق هذا غير سلمان الإداري المحنك؟! فإن كان أول الغيث قطرة، فقطرة سلمان غيث يحمل البشرى ويطمئن النفوس الوجلة.
وأنا أتابع تلك الحزمة المدهشة من الأوامر الملكية الكريمة، وأراقب أداء مليكنا المفدى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، -حفظه الله ورعاه- في أسبوعه الأول، تداعت إلى ذهني صور عديدة، أبرزها حديث المؤسس الباني الملك عبدالعزيز آل سعود لبروكلمان: (إذا وفق الله أولادي، كما وفقني، فسوف يتولون مقدارات مائة مليون مسلم) في إشارة لإيمانه العميق باستمرارية الملحمة التي قادها وعالمية رسالتها، حتى إن اضطر هو إلى الاكتفاء بما حققه جيله. إضافة إلى رواية عجيبة لطيفة، رواها الأستاذ عبدالله نور عن الأميرة حصة بنت أحمد السديري، أم فهد ووالدة الملك سلمان وإخوته البررة الكرام، مفاد الرواية أن الأميرة حصة رحمها الله، كانت تضطلع بدور تربوي مهم، يرفد جهد المؤسس في تربية أبنائه وإعدادهم لتحمل المسؤولية، إذ كانت تدرك أنها تربي ملوكاً يجب أن يصل إليهم الحكم بعد أبيهم عن جدارة وكفاية، لا عن ميراث فحسب. وها هو سلمان اليوم يحقق أمنية والديه بكفاءة منقطعة النظير، مثلما فعل إخوته الذين سبقوه لتولي الحكم، بل يزيد على ما فعلوه، فيرسم استقرار المملكة إلى عقود قادمة إن شاء الله، منذ اللحظة الأولى التى اعتلى فيها سدة الحكم، متمثلاً رد والده على أمين الريحاني:
نبني كما كانت أوائلنا
تبني ونفعل فوق ما فعلوا
ويدهش أولئك المرجفين، المثبطين، الشامتين المخذلين، الذين جحظت أعينهم فرحاً يوم رحيل المؤسس، واثقين أن عقد دولة عبدالعزيز سوف ينفرط بعد رحيل مؤسسها. فرد عليهم الملك سلمان اليوم بالعمل: موتوا بغيظكم.. هذه مسيرة مباركة لأنها صاحبة رسالة خالدة، وسوف يكتب الله لها التوفيق إلى الأبد إن شاء سبحانه وتعالى، لصدق نيتها وسمو هدفها ونبل مقصدها.
أجل.. جاء خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز لسدة الحكم، حاملاً في ذهنه إرث ما بدأه موحد الجزيرة الوالد المؤسس الباني، من تطبيق واعٍ للشريعة الإسلامية الحقة المتوازنة الشاملة، وصيانة العقيدة الإسلامية ونشرها بأثرها العظيم وقيمها الحقة ومبادئها العادلة.
أجل.. جاء الملك سلمان وهو يدرك تماماً أن كل المراهنين على زعزعة استقرار دولتنا وضعف ولاء المواطنين لبلدهم خاسرون لا محالة، لأنهم يجهلون أن ركائز هذه الدولة الفتية مشتركة مع قيم الأفراد، وأنها قامت على سواعد أجدادهم بقيادة المؤسس، فحققوا الوحدة وحافظوا عليها في بلد صالح بقيادة صالحة، تحكم بشرع الله وتقيم العدل وتحفظ الحقوق.
أجل.. جاء سلمان الإداري المحنك، المثقف الواعي، الصحفي، الأديب، المؤرخ، قدوة التكافل والتكامل الاجتماعي بين المسلمين، سلمان.. رجل المواقف؛ نبع الحكمة، يمين العطاء والكرم، عنوان السماحة والمروءة ويد الخير، الذي يعد باتفاق المؤرخين، أشبه الناس بوالده المؤسس الملك عبدالعزيز في كثير من الخصائص القيادية والذاتية والخلقية والأخلاقية، إذ أخذ عنه تدينه وحب الخير وحب العائلة والإخلاص للعقيدة والوطن، إضافة إلى الشجاعة والصبر عند الملمات والمعرفة بالأنساب وقبائل الجزيرة العربية وأصولها وفروعها، والحرص على استشارة أهل الخبرة والمعرفة، وعدم التسرع في اتخاذ القرار إلا بعد التثبت والإطمئنان لما يحققه من عدل ويجلبه من خير ويدفعه من ظلم. وصدق أحمد غزاوي، شاعر الملك عبدالعزيز، إذ يقول عن شبه سلمان بوالده المؤسس:
وأقسم الناس من بدو ومن حضر
بأنك الصورة المثلى وتجريد
أجل.. هذا هو سلمان صاحب القدرة الإدارية الفذة، والمعرفة الحضارية الحقيقية والثقافة العامة الشاملة، التي قل أن يمتلكها رجل مثله في موقعه اليوم.. أمين سر العائلة ورئيس مجلسها والمستشار الشخصي لملوك المملكة، صاحب الحس الحضاري الاستثنائي الذي نقل الدرعية من ركام الإطلال الطينية إلى رحاب قائمة التراث العالمية، فسبق بذلك منظمة اليونسكو في إدراكه لأهمية الدرعية قبل ثلاثة عقود.
أجل.. هذا هو خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، الذي تبارى الشعراء والكتاب والأدباء والمؤرخون في وصفه، حتى جف مداد أقلامهم دون أن يحصوا أوصاف رجل بهمته وشخصيته المبهرة. ومن أبدع ما قرأت من وصف الشعراء لسلمان.. دوحة الإحسان (سمو الوفاء.. ووفاء السمو) كما وصفه الراحل الكبير (سلطان الخير) قصيدة رائعة للشاعر عبدالله بن سعود الدويش من أهالي الزلفي، نشرت بجريدة الجزيرة، الثلاثاء 17-12-1431هـ، الموافق 23-11-2010م، العدد 13935، ص 54، جاء فيها:
سلمان كيف أقول فيك مدائحي
بل كيف أكتب للملا أشعارا
والناس تعلم عن شمائلك التي
غطت بحمد إلهنا الأمصارا
فلأنت صاحب حكمةٍ أصغى له
سمع الزمان وبثَّها إذ سارا
سلمان لاسمك في القلوب مكانةٌ
جمعت مع الحب العظيم دثارا
سلمان كيف لقافيتي الثناء وقد
عجز القصيد عن المديح وحارا
فلأنت مَن أولى اليتيم رعايةً
وبنى لمن يخشى التشرد دارا
وسموت نحو المجد شأنك واضح
فسمى بك المجد العظيم وطارا
فلقد حباك الله منه شمائلا
ومضى الزمان يعدها إكبارا
فبك المكارم تنتشي مزهوّةً
إذ أبصرتْ في مقلتيك شعارا
ولقد تشرفت البلاد بشخصكم
إذ أدركت بقدومكم أوطارا
فالحمد لله حمد الشاكرين، الذي جعل فينا قائداً فذاً وبطلاً هماماً، يحمل الراية سائراً بنا على خطى المؤسس الباني في أداء رسالة بلادنا الغالية وأهلها الأوفياء، واختار من بيننا رجالاً شهد لهم الجميع بالكفاءة والاقتدار، لمساعدته في تحمل المسؤولية، فهذا ولي عهده الأمين وساعده الأيمن الذي لا يلين، صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز، الذي يكفيه فخراً ووصفاً ما قاله فيه أخوه الملك سلمان بن عبدالعزيز، في حفل جائزة حائل للإبداع والتفوق لعامها الأول بمدينة حائل، يوم كان صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز أميراً لمنطقة حائل، في 27-11-1419هـ، الموافق 15-3-1998م: (أخي العزيز مقرن بن عبدالعزيز، كما دعوتموني لحضور المناسبة وتشريفي بهذا الشرف، فأنت، ولا شك، عزيز عليّ، أخاً عزيزاً كريماً، توسمت فيه النجابة من صغره، ومنطقته ومدينته عزيزة عليّ، وأهلها أعز). إضافة إلى ما جادت به قريحة الأستاذ عبدالرحمن بن سليمان الرويشد في قصيدته التي نشرت بجريدة الجزيرة، الجمعة 11-6-1435هـ، الموافق 11-4-2014م، العدد 15170، ص 21، التي جاء فيها:
وما مقرن إلا أزاهر وردة
يلونها مع طالع الفجر أذّن
كريم المساعي صادق في حديثه
طليق المحيا خيرة الناس محسن
تقلد شارات الجنود مبكراً
وحلّق في الأجواء نسر مثمن
يدك عباب الجو في ظرف لحظةٍ
بطائرةٍ من صنع من كان يتقن
وولي ولي عهده، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز، وزير الداخلية، الذي ورث عن نايف الفطنة والذكاء، واليقظة والشجاعة والعين الساهرة التي تحرس منجزات الوطن وتضمن للناس الأمن والاستقرار؛ واختار لحراسة العرين نجله البار محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، تلميذه المخلص النجيب، السائر على دربه في صدق العزيمة وقوة الشكيمة. وطعّم مجلس حكومته بقيادات شابة مشهود لها بالكفاءة والولاء والقدرة على تحمل المسؤولية.
ورحم الله فقيدنا الغالي، عبدالله بن عبدالعزيز، الذي لم يدخر وسعاً لخدمتنا وعزّة بلادنا ورفعة أمتنا وخير الإنسانية، فأبكى رحيله العالم أجمع الذي توافد إلى عاصمة الخير لتقديم واجب العزاء، بمن فيهم الرئيس الأمريكي، الذي تجاوز بروتوكولات بلاده، فكان أول رئيس أمريكي يذهب بنفسه لتقديم واجب العزاء خارج بلاده على امتداد تاريخ أمريكا الذي شهد أربعة وأربعين رئيساً. وشهد برنامج الأغذية العالمي بإنسانية فقيدنا وزعامته، كما جاء في نعي مديرته التنفيذية إرثارين كازين: (... كان الملك عبدالله زعيماً إنسانياً حقيقياً، يقف دائماً بجانب الجياع والفقراء في العالم، كان بإمكاننا الاعتماد على سخاء الملك في أصعب اللحظات عندما كنا نناضل من أجل إنقاذ الأرواح وإطعام الفارين من الصراعات أو الكوارث الطبيعية...). وعقدت الأمم المتحدة جلسة خاصة يوم الاثنين 13-4-1436هـ، الموافق 2-2-2015م، لتأبينه، معددة مآثرة وإنجازاته ويد الخير التي ساهم بها لإطعام الجياع ورفع الضر عنهم، والدعوة للسلام والحوار والتآلف والتآزر والتعايش بالحسنى، مؤكدة أنها تلقت أكبر دعم في تاريخها من لدنه، خمسمائة مليون دولار أمريكي. وأعلنت دول كثيرة في العالم الحداد عليه، ونكّست أعلامها.
وبعد:
صحيح.. كان عبدالله بن عبدالعزيز هذا كله وغيره كثير من خصال الخير وخدمة العقيدة والشعب وحماية الوطن والحرص على نفع الناس أجمعين.. فأدهش حسن صنيعه الدهشة وفاجأ المفاجأة، كما أكدت سابقاً في أكثر من مقال. وأؤكد لكم اليومن أنكم سوف ترون من خلفه، خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، -حفظه الله ورعاه-، أعمالاً وإنجازات تفوق الخيال، وتعجز كل اللغات عن وصفها وحصرها.. فالحكم عندنا رسالة خالدة، يضيف إليها كل خلف، مزيداً من العمل والخدمة والتجويد، كما شهد العالم لكل الملوك السابقين، -عليهم رحمة الله أجمعين-.
فاللهم أحفظ مليكنا خادم الحرمين الشريفين عبدك سلمان بن عبدالعزيز، ومتعه بالصحة والعافية، ومد في عمره لننهل من معينه ونحظى بما تهيئه لنا على يديه من خير، ووفق ولي عهده الأمين وولي ولي عهده وحكومته الرشيدة، لخدمة الدين والمليك والشعب والوطن والأمة والإنسانية كلها.. -اللهم آمين-.