اللواء الركن د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
فاجعة جلل:
في يوم الجمعة، الذي هو أشرف أيام الأسبوع وأعظمها، بل سّيدها، الثالث من ربيع الآخر 1436هـ، الموافق الثالث والعشرين من يناير 2015م، فاضت روح والدنا وقائدنا وحادي ركبنا وحكيم أمتنا، الملك الصالح والإمام العادل، خادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود، طيّب الله ثراه، في تمام الساعة الواحدة من فجر الجمعة، حسبما جاء في نعي الديوان الملكي.. في هذا اليوم الذي طالما أحبه عبدالله، ولهذا من يعود بالذاكرة قليلاً إلى الماضي القريب، يدرك سر حب فقيدنا الغالي لهذا اليوم، إذ شهد معظم قراراته الكريمة وأوامره السامية، التي أصدرها منذ توليه سدة الحكم، يوم الاثنين السادس والعشرين من جمادى الآخرة 1426هـ، الموافق غرة أغسطس 2005م، وتجاوزت الأربعمائة قرار وأمر ملكي كريم، غيّرت وجه الوطن، وحولته إلى خلية نحل لا تهدأ، تنثر الخير والسلام والاطمئنان والأمن، وترسي العدل والمساواة، وكل القيم الفاضلة والمبادئ النبيلة، في شتى أنحاء العالم.
فأصبحت بلادنا، بفضل الله وتوفيقه، وجهد فقيدنا الغالي، أحد أهم السبعة دول العظمى في العالم التي تستطيع هزّ العالم، طبقاً لما جاء في مجلة (American Interest) في شهر يناير الماضي، كتفاً بكتف مع أمريكا، ألمانيا، الصين، اليابان، روسيا والهند، بما تمتلكه من ثقل اقتصادي وسياسي، وموقع إستراتيجي وعقدي، وهذا هو في نظري العامل الأهم الذي يزعج الغرب.
كان عبدالله بن عبدالعزيز، القائد الوفي المخلص، صاحب القلب الكبير، كل شيء في حياتنا، ولهذا كان رحيله فاجعة مؤلمة، ليس لنا نحن هنا وحدنا، بل لكل البشر في العالم، من مختلف الديانات والأعراق والأفكار، كما ظهر من خلال توافد زعماء العالم، من ملوك وسلاطين وأمراء ورؤساء ووزراء ومسؤولين وحتى شخصيات مدنية عامة، الذين عرفوا مكانة عبدالله بن عبدالعزيز فصدمهم رحيله، فتوافدوا إلى عاصمة المجد والسؤدد (رياض عبدالعزيز الحبيبة) ليودعوا قائداً فذاً، طالما كان سنداً وعوناً للناس في كل مكان، وركيزة أساسية في استقرار العالم وسلامه وأمنه.
أما نحن هنا، في هذه البلاد الطيبة الطاهرة المباركة، فقد دخل الحزن كل بيت من بيوتنا، وكأني بنا جميعاً توافدنا إلى عروس البحر (جدة الحبيبة) من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، واحتشدنا في اليوم التالي لرحيل والدنا عبدالله حول تلك اللوحة الفريدة المعبرة، التي فاقت شهرتها شهرة لوحة (الموناليزا) كما أكد رسامها، الفنان الشاب أحمد زهير، وسألنا فقيدنا الغالي في حيرة، بصوت واحد، مع الشاعر سليمان الصقعبي: وين رايح؟ ثم ناشدناه: التفت سلّم علينا. وأوردنا الأسباب أيضاً بصوت واحد: ماروينا من حنانك.. ومنك والله ما اكتفينا.. غير أنه طيّب الله ثراه، طول الغياب هذه المرة، وأصبح ليلنا دونه أحزاناً وجروحاً، وكم تمنينا مع الشاعر الصقعبي: لو يرجع بس لحظة ويلوح بكفه لنا مرة واحدة فقط ويروح. ثم نعود فجأة إلى وعينا وقوة إيماننا بربنا، مستذكرين أن لكل أجل كتاب، وأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ساعة ولا يقدم.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
صحيح.. كانت غيبة والدنا الغالي صعبة وفقدانه مصيبة عظيمة، كما أكدت صاحبة السمو الملكي الأميرة سحاب بنت عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، صغرى بناته، في قصيدة باكية مؤثرة، نشرتها على حسابها في تويتر يوم الخميس 2-4-1436هـ، الموافق 22-1-2015م، مؤكدة فيها أنها صاحبة تلك الصورة الشهيرة التي سبق الحديث عنها آنفاً، ورسمها الفنان الشاب أحمد زهير في كورنيش (عروس البحر) وقد التقطتها الأميرة سحاب لوالد الجميع، بينما كان يقف أمام سيارته، ومن حسن الطالع أنها التقطتها له في جدة أيضاً. فأنشدنا كلنا مع الأميرة سحاب بكلمات باكية:
سيدي يا والد الشعب وحبيبه
غيبتك صعبة وفقدانك مصيبة
كيف أعيش العمر بعدك وأنت عمري
عمري بدونك أنا كيف أهني به؟
كل حاجة من بعد فراقك تبكي
الفجر والناس والأرض الرحيبة
والشوارع والمباني والصحاري
والقمر من مطلعه حتى مغيبة
تبكيك بدموعها أصغر بناتك
آه ياحزني ودمعاتي السكيبة
كل ما ألمح شيء غادرت وتركته
أشعر بوحشة فراق وطول غيبة
مجلسك، نظارتك، بشتك، عقالك
والزوايا والممرات الكئيبة
كلها تبكي على موتك وأنا أبكي
يا أطيب أهل الأرض وأكثر طيبة
وقد ذكرتني هذه القصيدة المعبرة الحزينة الباكية، التي تؤكد فداحة غيبة أطيب أهل الأرض وأكثرهم طيبة، ومصيبتا جميعاً في فقدانه، طلب صاحبة السمو الأميرة نوف بنت عبدالعزيز آل سعود، من ابن أخيها، صاحب السمو الملكي الأمير متعب بن عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، وزير الحرس الوطني، الذي كان ملازماً لفقيد الوطن والأمة والعالم طيلة أيام مرضه وحتى لحظة الوداع الأخيرة، في صورة تعيد إلى الأذهان وفاء سلمان، الذي عرفناه أوفى من الوفاء، مع رحمة وهيبة، كما أشارت الأميرة سحاب في قصيدتها آنفة الذكر:
والعوض في سيدي سلمان بعدك
عمي اللي جامع رحمة وهيبة
أقول، طلبت الأميرة نوف من الأمير متعب، الاحتفاظ بشيء من ملابس الراحل الكبير، الملك الصالح عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، غفر الله له، وأسكنه فسيح جناته، فأجابها الأمير متعب الذي عرف ببره: (عمتي أنتي أغلى من نفسي عليّ، وسأهديك آخر بشوت الوالد الذي رافقه إلى مثواه الأخير، مع أني كنت حريصاً أن أحتفظ به، ولكن لا يغلى عليك).
وقد شاهدنا كلنا في المقبرة تلك الرغبة الصادقة لدى الأمير متعب في الاحتفاظ ببشت والد الجميع الراحل الكبير، عندما جذبه إليه بحرص واهتمام كبيرين. وأكاد أجزم أن كل سعودي وسعودية في هذا الوطن الغالي، يتمنى أن يحتفظ بشيء مما تركه الراحل الكبير والد الجميع من أغراض شخصية، مع أنني هذه المرة أجزم جزماً قاطعاً، أن والدنا الراحل قد ترك أثراً سيبقى خالداً إلى الأبد في نفس كل واحد منّا.. هو هذا الحب الفياض الذي عمّر به قلوبنا وأشاعه بيننا. وقد كانت حياته العامرة كلها تكريساً لهذا الحب. وثمة صور تجل عن الوصف، تؤكد حب القائد الفذ والبطل الهمام عبدالله بن عبدالعزيز، اختصرها في صورة واحدة، تلخص كل صور محبة عبدالله بن عبدالعزيز الصادقة لشعبه، ستبقى محفورة في ذاكرتنا إلى الأبد.. تلك هي صورته وهو يحاول جاهداً كفكفة دموعه الطاهرة وهو يحتضن أبناء شهداء الوطن، ويقبل رؤوسهم وجباههم عند زيارته التاريخية لمنطقة القصيم، أثناء احتفالات البلاد بالذكرى الثامنة لبيعته المباركة، مشيداً ببطولة آبائهم، ومؤكداً لهم أبوته وعنايته واهتمامه، ورعاية الدولة لكافة شؤونهم.
دولة راسخة:
أجل.. حق لنا الحزن على فقيدنا الغالي، والدنا الحنون عبدالله بن عبدالعزيز، الذي تحمل المسؤولية بكل ثقة واقتدار، وحنكة وحكمة وأمانة عظيمة، فكان عهده زاهراً، كعادة سلفه الأبرار، استمراراً لمسيرة الخير القاصدة التي رسّخها عبدالعزيز، فوضع بلادنا في مصاف الدول العالمية العظمى، إذ انضمت لمجموعة العشرين ومنظمة التجارة العالمية، وحقق اقتصادنا في عهده المركز الثالث كأكبر اقتصاد عالمي في إجمالي الأصول الاحتياطية، بعد الصين واليابان، متقدماً على روسيا الاتحادية والبرازيل وكوريا الجنوبية، فتضاعفت الفوائد المالية في عهده إلى تريليونين و102 مليار ريال، كما تضاعفت الميزانية في عهده، واحداً وخمسين ألف مرة، مقارنة بأول ميزانية رسمية صدرت عام 1352هـ (1933م) في عهد المؤسس، -طيب الله ثراه-، إذ لم تتجاوز الأربعة عشر مليون ريال، لأسباب معروفة.
وقد أكد صندوف النقد الدولي قدرة بلادنا على المحافظة على هذا المركز كأكبر اقتصاد عالمي في فائض الحساب الجاري حتى عام 2018م. يضاف إلى هذا أن بلادنا تصدرت قائمة دول العالم كأقل دولة في نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، حتى في ظل ما تعرضت له أسعار النفط، الذي يعد المورد الأساسي لاقتصادنا في عهده الميمون، إلى انخفاض حاد عامي 2008 و 2014م.
أما الصحة، فقد حققت في عهده المبارك نهضة تنموية عملاقة، وفرت الرعاية الصحية الشاملة للمواطن والمقيم في شتى بقاع المملكة المترامية الأطراف، من خلال تحسين الأداء وخدمة المريض، وتعزيز مستوى كافة الممارسين الصحيين، والسيطرة على الأمراض والتحكم فيها، والإكتشاف المبكر، فضلاً عما تميزت به بلادنا في ما عرف بـ(طب الحشود) من خلال ما توفره الدولة من رعاية صحية شاملة ومتكاملة لحجاج بيت الله الحرام والمعتمرين وزوار مسجد رسوله الكريم -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.
وقد كانت تلك تجربة رائدة، أدهشت العالم، وحظيت باهتمام منظمة الصحة العالمية وكافة المعنيين بشؤون الصحة في مختلف بلدان العالم. فضلاً عن تقدم نوعي آخر في مجال الصحة، فخلال ربع قرن نجحت سواعد أبناء مملكة الإنسانية في وزارة الصحة، في إجراء أربعين عملية لفصل توائم سياميين من مختلف أنحاء العالم والأجناس والديانات، بنسبة نجاح وصلت إلى (80%) بدافع إنساني بحت لا تشوبه شائبة أية مصلحة، غير شكر الله على النعمة وطلب رضائه.
أما في مجال العلم، الذي هو بكل تأكيد أساس كل تنمية، فقد كان الراحل الكبير يردد دائماً: العلم المدخل الواسع والإدارة الفاعلة في مسيرة التنمية. ويخاطب أبناءه الطلاب كلما التقاهم: أنتم عتاد الغد لمستقبل لا نقبل فيه بغير الصدارة لوطن أعطانا الكثير. وقد ذكرني هذا حادثة لطيفة، فيها كثير من العبر والدروس والاهتمام بالعلم والحرص عليه، امتداداً لمسيرة المؤسس الخالدة، عندما زار معهد الأنجال ولاحظ أن أحد أبنائه الطلاب يحاول جاهداً إخفاء بقعة حبر في ثوبه. فبادره الوالد الذكي اللّماح: لا تنزعج يابني، فهذا عطر المتعلمين. ولهذا ليس غريباً أن تنتقل بلادنا بثبات من الكتاتيب في عهد المؤسس الباني، إلى تقنية النانو في عهد نجله البار الملك الصالح عبدالله بن عبدالعزيز، بعد أن تطوّرت مؤسسات التعليم العام والتعليم العالي من بضع كتاتيب، إلى خمس وعشرين جامعة حكومية، تستوعب (86%) من خريجي الثانوية، فضلاً عن العديد من الجامعات والكليات الجامعية الخاصة، إضافة لمشروعات البنى التحتية والمساندة والمدن الجامعية وبرنامج (خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله للابتعاث الخارجي) الذي دشّن هذا العام مرحلته العاشرة، فتجاوز عدد مبتعثيه المائة وخمسين ألف مبتعث ومبتعثة، يتلقون العلوم والمعارف في مختلف التخصصات العلمية، في سبع وثلاثين دولة في العالم، من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه.
أما في مجال البحث العلمي، فلدينا اليوم أربعة عشر مركزاً للتنمية البحثي في جامعتنا، إضافة إلى مبادرة وزارة التعليم العالي (سابقاً) التي أُعلنت عنها مؤخراً لتأسيس (المراكز البحثية للمنتجات المعرفية) لتعزيز مسيرة البحث العلمي، وتحقيق رؤية القيادة الرشيدة في التحول إلى الاقتصاد المعرفي، وتحول المراكز البحثية في الجامعات إلى مرحلة الإنتاج وربطها بالواقع الصناعي والخدمي.
أما على الصعيد السياسي والأمني، فقد تصدرت بلادنا المشهد مع الكبار، إذ حظيت بحضور دولي فاعل، يعبر عن دور أصيل لدولة رائدة، تقف على أكتاف حضارات متعاقبة، بفضل سياستها الرشيدة الحكيمة، التي طابعها الصبر والعقل والاتزان والاعتدال، والحرص على المساهمة بقدر وافر في تقدم العالم وتطوره، وتعزيز الأمن والسلم، وتخفيف معاناة الدول النامية التي تتعرض للكوارث الطبيعية من زلازل وبراكين وفيضانات وغيرها. وتعاني الأمرين من تشرذم قادتها وتحزبهم شرقاً وغرباً، بل تطرف بعضهم، وانهيار جيوشها النظامية وتحولها إلى مليشيات تقطع الطرقات وتقتل على الهوية، واستعار لهيب الحروب الأهلية فيها، التي عطلت عجلة التنمية وحولت حياة الناس إلى جحيم لا يطاق، بسبب التكالب على السلطة والاستئثار بالثروة، دون أدنى نية صادقة لخدمة تلك الشعوب المغلوبة على أمرها.
هذا بالطبع فضلاً عن دور المملكة الرائد في مكافحة الإرهاب وتدويل السلم والأمن، ويحمد لقيادتها أنها أول من علق جرس الإنذار، محذرة من عواقب الفكر المتطرف العابر للقارات، وما يمكن أن يترتب عليه من اضطراب وفوضى وتعطيل لعجلة التنمية. وكعادتها، لم تكتف المملكة بالقول، بل أيدت ما قالته بالعمل الجاد المخلص الشجاع، فاستضافت أكثر من مؤتمر دولي لمكافحة الإرهاب في إطار الأمم المتحدة، ودعت إلى تأسيس مركز دولي لمكافحته، وتبرعت له بعشرة ملايين دولار في البداية، ثم ألحقت ذلك بمائة مليون دولار. كما أنشأت مراكز للحوار بين الديانات والأفكار والثقافات، حاثة المجتمع الدولي على تحييد المعتقدات الدينية من الصراعات السياسية، داعية إلى ضرورة نبذ العنف والتطرف والكراهية والتفرقة العنصرية.
وللأسف الشديد، لم يدرك العالم نفاذ بصيرة القيادة السعودية وصدق نيتها، وبعد نظرها، وحبها للخير للناس أجمعين، إلا بعد أن وقعت الفأس في الرأس، فاجتاحت (داعش) التي تضم في صفوفها أكثر من ثلاثة آلاف عنصر بين رجل وامرأة من أمريكا وأوروبا، أجزاء واسعة من سوريا الجريحة والعراق المكلومة، وأعلنت دولتها المزعومة في الشام والعراق، مهددة بذلك الأمن والسلم العالميين، فضلاً عما أقدمت عليه من ممارسات يندى لها الجبين، من اغتصاب لآلاف النساء والفتيات البريئات، وبيعهن في الأسواق بثمن بخس، وجز الرؤوس وتعليقها في الطرقات العامة، بل إعدام خصومها حرقاً كما فعلت بالطيار الأردني معاذ الكساسبة، في ممارسة لا تمت لأي دين بصلة من قريب أو بعيد، وأبشع جريمة في التاريخ.
ومن جهة أخرى، خرج نطاق القاعدة عن السيطرة، وتسبب في الحادي عشر من سبتمبر فرنسية، فكانت أحداث صحيفة (شارلي إيبدو) التي رفعت حالة الاستنفار الأمني في أوروبا إلى الدرجة القصوى، بعد أن استنزفت خزينة الغرب الذي اضطر لتخصيص المليارات لدعم قدراته الأمنية بالتجهيزات الفنية والكوادر البشرية، كما أعادت تلك الحادثة التي فجعت الغرب إلى الساحة، النعرات العقدية من جديد، مهددة السلم الاجتماعي، حتى في ظل حرص قادتها على عدم الوقوع في هذا المنزلق الخطير، كما حدث في ألمانيا مثلاً.
أما نحن هنا، في بلاد الخير والمحبة والسلام، فنعلن على الدوام: (أن المملكة ما تزال ماضية في حصار الإرهاب ومحاربة التطرف والغلو، ولن تهدأ نفوسنا أبداً حتى نقضي على هذه الفئة الضالة، التي اتخذت من الدين الإسلامي جسراً تعبر به نحو أهدافها الشخصية، وتصم بفكرها الضال سماحة الإسلام ومنهجه القويم) حتى اجتثات شأفته نهائياً وتخليص الناس من شروره، كما أعلن القائد الراحل، في كلمته التي ألقاها نيابة عنه نائبه، خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، في حفل الاستقبال السنوي لكبار ضيوف الرحمن في منى أثناء حج هذا العام.
على صعيد آخر، أطلق الراحل الكبير جملة من المبادرات العالمية لتشجيع التواصل بين الإنسانية، سعياً لردم هذه الهوة التي جعلت العالم يتربص ببعضه البعض. كما قام بجولة لتوثيق التضامن العربي والإسلامي، شملت عدة ملفات، وكلنا نتذكر في هذا الصدد جولته التي قام بها في شعبان عام 1431هـ - يوليو عام 2010م، وشملت مصر وسوريا والأردن ولبنان.
أما القضية الفلسطينية، فتمثل الهم الأول للمملكة منذ عهد المؤسس، الذي سعى حثيثاً لإيجاد حل لها مع الرئيس الأمريكي الأسبق (روزفلت) ورئيس وزراء بريطانيا (تشرشل) فضلاً عن مشاركة الجيش السعودي الرسمي مع جيوش الدول العربية في حرب فلسطين عام 1368هـ (1948م). وقبل هذا، بعث المؤسس ولي عهده (الأمير سعود) إلى فلسطين عام 1354هـ (1935م) للاطمئنان على أوضاع الشعب الفلسطيني، عقب ثوراته المتعاقبة ضد الاحتلال البريطاني، إضافة إلى جهود كثيرة تجل عن الحصر، لرأب الصدع بين الدول العربية والدول الإسلامية، من العراق إلى الكويت وسوريا ولبنان ومصر وليبيا والجزائر والمغرب وتونس والسودان وتشاد وإرتيريا وجيبوتي والصومال وأفغانستان والشيشان وغيرها، إلى جانب إنشاء الصندوق السعودي للتنمية عام 1395هـ (1975م) لدعم التنمية في البلدان النامية عن طريق منح قروض ميسرة.
أما عنايته بدول مجلس التعاون الخليجي، التي تحتل لدى فقيدنا الراحل الكبير عبدالله بن عبدالعزيز، مكانة القلب، فمبكرة ودائمة، سعياً لضمان أمنها واستقرارها وحماية استقلالها، ولهذا سبق بحدسه الفطري موجة ما عرف بـ(الربيع العربي) الذي أصفه دائماً بـ(خريف شاحب) تساقط فيه كل ما كان موجوداً من أوراق الأمن والاستقرار في تلك البلدان على شحها، بطرح فكرة الاتحاد الخليجي التي كانت تراوده دائماً، على غرار الاتحاد الأوروبي، بل أفضل منه، يؤكد هذا حديثه الصحفي الذي أدلى به لجريدة السياسة الكويتية عام 1431هـ (2009م) أي قبل انطلاق شرارة (الخريف العربي) بعامين تقريباً، إذ قال: (إنني أطمح أن أرى دول مجلس التعاون الست، التي يجمعها الدين الواحد واللغة الواحدة، بل اللهجة الواحدة، أقول أطمح أن أرى مسار هذه الدول أفضل بكثير من مسار الاتحاد الأوروبي، فلديها كل مقومات الترابط المصلحي التي تجعلها وحدوية بصورة أفضل من الاتحاد الأوروبي). ولهذا افتتح في قصر الدرعية القمة الخليجية الثانية والثلاثين في 24-1-1433هـ، الموافق 19-12-2011م، بدعوة تاريخية للانتقال من مرحلة (التعاون الخليجي) إلى (الاتحاد الخليجي) مخاطباً إخوانه زعماء الخليج: (... أطلب منكم اليوم أن نتجاوز مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد في كيان واحد، يحقق الخير ويدفع الشر إن شاء الله). وليس أدل على هذا من جهوده الصادقة، رحمه الله، مع ظروفه الصحية، لرأب الصدع بين دول الخليج في اجتماع الرياض التكميلي قبيل قمة الدوحة الأخيرة، مما أدى لتنقية الأجواء وتطييب الخواطر وطي صفحة الخلاف، بل تجاوز الأمر هذا الحد لعودة السفراء وتطبيع العلاقات كالسابق، حتى بين مصر وقطر اللتان كانت بينهما جفوة مزعجة لوحدة الصف العربي، أقرب إلى الخصومة من الاختلاف حول رأي.
أما على الصعيد الداخلي، فقد شهدت بلادنا في عهد قائدنا الراحل، إصلاحات تاريخية حقيقة، شملت جميع المرافق، يضيق المجال هنا عن حصرها، غير أنني أكتفي بما تحقق للمرأة التي انتقلت في عهده من التهميش إلى التمكين، برأس مرفوع، وخطوات ثابتة، وعزيمة ماضية، فجلست تحت قبة مجلس الشورى، وشغلت عشرين في المائة من مقاعده، بثلاثين عضوة كاملة العضوية والأهلية، فاعلة ومشاركة، مشاركة حقيقية في أعمال المجلس، كما تولت مناصب قيادة عليا في وزارات مؤثرة، كالصحة والتربية والتعليم والشؤون الاجتماعية والمجالس البلدية، إضافة إلى مناصب دبلوماسية وسياسية وتعليمية وطبية وإدارية داخل البلاد وخارجها، وشرّفت (نورة) وطنها ولم تخيب ظن قائدها، فسافرت إلى سبع وثلاثين دولة في العالم، وصلت حتى الصين، مبتعثة تطلب العلم، وحققت إنجازات أدهشت العالم، فنالت جوائز عالمية في أكثر من مجال، وكرّمها رئيس أعظم دولة في العالم، اعترافاً بقدراتها، وتقديراً لعطائها، وتأكيداً على جهدها في خدمة الإنسانية.
أجل.. تلك هي (نورة) شقيقة المؤسس الحكيمة العاقلة، السياسية الماهرة، العربية الأصيلة الكريمة، التي طالما ناصرت المؤسس وشدّت أزره، ووقفت إلى جانبه في أحلك الظروف وأصعب اللحظات، فأسس لها فقيدنا الراحل أعظم جامعة للبنات في العالم، في وقت قياسي، اعترافاً بفضلها، وإدراكاً لدورها في مسيرة الحياة ونهضة المجتمع، وإيماناً بقدراتها وإمكاناتها التي لا تحدها حدود.
وربما اندهش البعض إذا علم أن المرأة السعودية اليوم تشغل (58%) من مقاعد الدراسة في التعليم العالي، متفوقة على الرجل، مقارنة بأربعة طالبات فقط التحقن عام 1381هـ (1961م) بكليتي الآداب والعلوم الإدارية بجامعة الملك سعود (عن طريق الانتساب). أما اليوم، فقد اقتحمت المرأة السعودية بفضل الله، ثم بفضل ما وفرته لها القيادة الرشيدة من دعم صادق ورعاية كبيرة واهتمام أكيد، جميع مجالات العلوم والمعارف، فأصبحت طبيبة ماهرة في مختلف التخصصات، وعاملة وباحثة ومخترعة يشار إليها بالبنان، ومثقفة ومفكرة.
فبكته (نورة) بلكمات صادقات معبرات، تنزف دماً من حسرة الفقد وفاجعة المصيبة، كما تقدم قي قصيدة صاحبة السمو الملكي، ابنته البارة، الأميرة سحاب، وكما تؤكد هنا الشاعرة الأديبة الدكتورة أشجان هندي، في مرثيتها الباكية بعنوان: (ترفق: فما أبكاك قد أبكاني) التي نشرت بجريدة الجزيرة، الأربعاء 8-4-1436هـ، الموافق 28-1-2015م، العدد 15462، ص 67:
على مثل عبدالله تبكي عيوننا
ومن مثل عبدالله في الأكوان؟
على القائد الحاني ستبكي قلوبنا
زماناً، ونذكره مدى الأزمان
ثم تؤكد الدكتورة أشجان حبنا لقائدنا ووالدنا الذي رحل عنا مودعاً إلى دار الخلود؛ مع ما تركه رحيله المفجع في النفس من أحزان، وفي القلب من لوعة:
نحبك عبدالله، لا الحب يشترى
وليس يكال الحب بالميزان
بكى الحب عبدالله والتحف الأسى،
ترفق: فما أبكاك قد أبكاني
أترحل عنا يا أبانا مودعاً
أترحل والأحزان كالطوفان!
تمهل ولا تعجل، فإن قلوبنا
إذا غبت لا تقوى على الخفقان
ثم ترفع أكفها بالدعاء مع كل السعوديين وجميع المحبين لعبدالله بن عبدالعزيز، الذين أدهشهم كرمه وخلقه وسماحة نفسه، وسحرتهم شجاعته ومروءته وصدقه:
أيا رب عبدالله، رحماك إننا
دعوناك باسم الواحد الرحمن
بأن تغسل القلب الذي كم أحبنا
بروح وريحان وماء جنان
ألا واجزه يا رب خير مثوبة
فإنك رب الجود والإحسان
ولا تقل مرثية الدكتورة أسماء بنت عبدالكريم الحقيل، بعنوان: (سيظل ذكرك شامخاً) التي نشرت في جريدة الرياض، الخميس 9-4-1436هـ، الموافق 29-1-2015م، العدد 17020، ص 50، رصانة وصدقاً عن مرثية الدكتورة أشجان هندي، اعترافاً من (نورة) بدور والدنا الراحل الكبير في دعمها وتمكينها، واعترافها له بهذا الجميل الذي أحدث نقلة نوعية في حياة المرأة في بلادي، ومشاركتها في كل الأنشطة، إذ تقول الدكتورة أسماء مخاطبة الراحل الكبير:
يا خادم البيتين فقدك حسرة
في كل نفس غصة ببكاء
غطى سناك الشمس في أفق المدى
يا كم يضوع شذاك في الأرجاء
يا كم تفردت المكارم ترتوي
من بحركم وتدفقت بسخاء
علمتنا أن الحياة بساطة
وتواضع وتآلف بإخاء
مؤكدة صبرنا واحتسابنا مصابنا الجلل عند الله تعالى، ورجاءنا له سبحانه أن يجزيه عنا خير الجزاء:
ونلوذ بالصبر الجميل ونرتجي
يجزيك رب البيت خير جزاء
ستعيش في وسط القلوب مخلداً
سيظل ذكرك شامخاً بإباء
والحقيقة، كثر هم الذين رثوا الفقيد الكبير شعراً ونثراً، وسوف يظل الجميع يكتب إلى أن يجف مداد الإقلام، دون أن نوفيه حقه علينا، غير أنني قصدت الاستشهاد هنا بمراثي (نورة) لأنبه الجميع لاعتدادها بقائدها ووالدها الذي فقدته وما حققه لها من إنجازات غير مسبوقة، ووفائها واعترافها له بالجميل، مما حفزها لكتابة هذا الشعر الصادق الرصين وغيره مما حققته من نجاحات في كافة المجالات، مؤكدة للجميع أنها قادرة على العطاء دون حساب، وفي هذا رد بليغ وبرهان دامغ لأولئك المشككين والمرجفين، الذين ظلوا يحاولون على مدى عقود لحبس المرأة خلف الأسوار، وتعطيل نصف قدرة المجتمع عن العمل والعطاء بحجج واهية وأسباب أكثرها مفتعل، لا يمت للإسلام بصلة من قريب أو بعيد، مع شدة حرصهم على ربط كل ما يسوقونه من مبررات بالإسلام الذي كرّم المرأة وأعلى شأنها ورفع قدرها وحفظ مكانتها، وفي كتاب الله العزيز الحميد وسنّة رسوله الكريم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، الكثير مما يؤكد مكانة المرأة في الإسلام وأهمية دورها في الحياة.
رسالة خالدة:
كلنا يدرك، بل العالم كله يدرك أن بلادنا هذه الطيبة المباركة، ذات رسالة خالدة، أنشئت أساساً لخدمة هذه الرسالة التي تتمثل في توحيد الله وإعلاء كلمته وتنقية العقيدة الإسلامية الصحيحة من كل ما يعلق بها من شوائب، وخدمة الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة وضمان أمنها، وتمكين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من أداء الحج والعمرة وزيارة مسجد الرسول الكريم -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، في سهولة ويسر، وضمان وحدة الشعب وتآلفه وتآزره وخدمته، والسعي الجاد لتحقيق خيره ورفاهه، وتوفير الحياة الكريمة لكل أبناء هذا الوطن في جميع مناطقه ومحافظاته ومدنه وقراه وهجره، وبسط العدل ونشر الفضيلية وكل القيم النبيلة والأخلاق الفاضلة الكريمة ووأد الرذيلة، وحماية استقلال البلاد والدفاع عنها بالغالي والنفيس.
ومن أهداف تلك الرسالة الخالدة التي من أجلها أنشئت دولتنا أيضاً، رعاية شؤون المسلمين والعرب في شتى أنحاء الأرض، ومساعدتهم والعمل على حماية استقلالهم، والسعي الحثيث لضمان وحدتهم وتآلفهم وتعاونهم لما فيه خير الجميع. إضافة إلى حب الخير للناس أجمعين، دون تفرقة بسبب جنس أو عرق أو دين. هذا هو دين بلادنا، وتلك هي رسالتها منذ نشأتها الأولى عام 1157هـ (1744م) على يد الإمام محمد بن سعود، ثم في دورها الثاني عام 1240هـ (1824م) على يد الإمام تركي بن عبدالله، صاحب السيف الأجرب.
(يتبع)