بداية، أعزي خادم الحرمين الشريفين الملك الصالح الحاكم العادل، والد الجميع كبير العرب وحكيمهم اليوم، عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، حفظه الله وعافاه، كما أعزي سيدي صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد الأمين، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، وسيدي صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز ولي ولي العهد مستشار خادم الحرمين الشريفين ومبعوثه الخاص، حفظهما الله ورعاهما، أعزيهم في شهداء الوطن الذين اغتالتهم يد الغدر والخيانة والجهل، فجر الأحد 13-3-1436هـ، الموافق 4-1-2015م، بمركز سويف، التابع لجديدة عرعر بمنطقة الحدود الشمالية، عند حدودنا مع العراق الشقيق، إثر تعرض إحدى دوريات حرس الحدود لإطلاق نار من أولئك المارقين المأجورين الذين سعوا بكل السبل للتسلل وتجاوز الحدود السعودية، ليهددوا حياة الناس ويعيثوا في الأرض فساداً، بعد أن أعماهم جهلهم أن يدركوا أن دون السعودية وترابها ومقدساتها ومقدرات شعبها وأرواحهم وأعراضهم وولاة أمرهم، أسوداً أشاوس لا يهابون الردى، بل يتطلعون للشهادة في سبيل الله والدفاع عن هذا الوطن الغالي وأهله وعقيدتهم، فتصدى لهم أبطال حرس الحدود المغاوير، مما أدى لاستشهاد البطل العميد عودة معوض البلوي، قائد حرس الحدود بالحدود الشمالية، والبطل العريف طارق محمد حلوي، والبطل الجندي يحيى أحمد نجمي، إضافة لإصابة اثنين من رفاقهم الأبطال، هما العقيد سالم طعيسان العنزي والجندي يحيى أحمد مقري.
والتعزية الصادقة موصولة لصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز، وزير الداخلية، الذي رأيناه في المستشفى يزور المصابين ويهنئهما على موقفهما وزملائهما الشهداء الأبطال، ويطمئن على صحتهما، متمنياً لهما الشفاء العاجل وللشهداء الخلود في الجنة، وبالطبع لا أنسى تعزية أسر الأبطال، الشهداء الأشاوس، الذين رفعوا رأس ذويهم وحفروا أسماءهم في سجل الخالدين من أبناء الوطن الأوفياء المخلصين الصادقين, والتعزية للوطن كله ولكل ذرة من ترابه، وهو يفقد هذه الأرواح الزكية الطاهرة، والسواعد القوية التي أنجبها ورعاها وعلمها ودربها وأعدها لهذا اليوم الذي نتسابق فيه جميعاً لنيل هذا الشرف العظيم. وهل ثمة شرف أعظم من لقاء الله في ميدان الدفاع عن وطن الحرمين الشريفين؟!
وأؤكد لأولئك المارقين الجهلة المأجورين، الذين باعوا ضميرهم، إن كان لهم ضمير، لتجار السياسة وسعاة الشر من شياطين الإنس، أن أحلامهم وطموحات من يزجون بهم إلينا، سوف تتحطم دوماً على سواعد أبناء السعودية الأبطال في جميع القوات النظامية، تساندهم لحمة وطنية عزّ مثيلها اليوم في العالم كله، بين القيادة الوفية الأبية والشعب المخلص النبيل، وليعلم كل مأجور يتربص بنا أنه سوف يظل هدفاً مشروعاً لأبطالنا الأشاوس.
فلا تفريط في هذا الأمن القوي المتين، الذي رسخته الدولة السعودية عبر ثلاثة قرون تقريباً، وضحت في سبيله بكل غالٍ ونفيس، وهل شيء أغلى من الروح وأنفس من هذه الدماء الطاهرة الزكية، وأذكّر الجميع هنا بما تضمنه الخطاب الملكي الكريم، الذي تفضل سيدي صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز بإلقائه نيابة عن مليكنا المفدى أمام مجلس الشورى يوم الثلاثاء 15-3-1436هـ، الموافق 6-1-2015م، وهو يفتتح أعمال السنة الثالثة من الدورة السادسة لمجلس الشورى بمقره بالرياض، إذ جاء فيه: (يظل الأمن هاجساً أساسياً لنا جميعاً، وقد شهدنا خلال العام الفائت محاولات مستميتة من الفئة الضالة وعناصر التخريب ودعاة الفرقة للنيل من استقرار بلادكم ووحدتها، فكان الرد عليها في المواقف الرائعة من المواطنين على مستوياتهم كافة، مما أثلج الصدر وطمأننا إلى صلابة وحدتنا الوطنية، وباءت تلك المحاولات بالفشل الذريع، نتيجة هذه المواقف وما قامت به مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية، التي وقفت لهم بالمرصاد وأفشلت خططهم. نقول ذلك ونشير بفخر واعتزاز إلى يقظة رجال الأمن وتضحياتهم من أجل أداء رسالتهم. وندعو لمن توفاهم الله بواسع رحمته ومغفرته وجنته، ونحيي من يواصل السهر على أمن الوطن والمواطن. ونشد على ساعده وندعو له بالتوفيق والسلامة.
وإننا بهذه المناسبة ومن هذا المنبر، نؤكد للجميع أننا لن نسمح بأي تهديد للوحدة الوطنية، وليعلم من يرتهنون أنفسهم لجهات خارجية، تنظيمات كانت أم دولاً، أنه لا مكان لهم بيننا، وسيواجهون بكل حزم وقوة، كما نؤكد عزمنا على مواصلة العمل الفكري والأمني للتصدي للإرهاب، ولن يهدأ لنا بالٌ حتى نحصّن بلادنا الغالية من هذا الخطر).
أما وقد اجتاحت حمى الإرهاب العالم بأسره، فعليه اليوم أن يذكر للقيادة السعودية رؤيتها الصائبة ونظرتها الثاقبة، يوم علقت الجرس لحظة اندلاع موجة الإرهاب في أراضيها منتصف تسعينيات القرن الماضي، مؤكدة أن الهدف ليس السعودية فحسب؛ بل العالم بأسره، وذهبت أبعد من ذلك، فدعت العالم لوضع تعريف دقيق للإرهاب من خلال ممارساته، وتأسيس مركز دولي لمكافحته، وبادرت بتبرع سخي له بمبلغ مائة مليون دولار لتفعيل دوره، ثم عززت جهودها في هذا الصدد بدعوة المجتمعين الإقليمي والدولي إلى التعاون لمكافحة هذا الداء العضال.
لكن للأسف الشديد، وقف العالم يتفرج على السعودية، وتركها وحدها تواجه هذا الخطر الداهم، بل ذهب أبعد من ذلك، فاتهمها البعض عندما اندلعت أعمال الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية عام 2001م، في الولايات المتحدة الأمريكية، بدعم الإرهاب ومساندته، فتجرؤوا على النيل من عقيدة المسلمين، التي أنشئت الدولة السعودية من أجل الدفاع عنها وتنقيتها من الشوائب والبدع والخرافات، وحراسة مقدسات المسلمين وتأمينها لأداء عباداتهم في أمن واطمئنان وسلام.
فأعماهم الجهل والبغي لحرق كتاب الله على الملأ أمام آلات تصوير وسائل الإعلام من شتى أنحاء العالم، وسب المسلمين وشتمهم في المنتديات وتحميلهم مسؤولية كل ما يحدث لهم في الغرب من أعمال إرهابية. لكن السعودية التي لم تتعامل يوماً في تاريخها كله بردة الفعل، إذ يقوم منهجها على تحكيم العقل والصبر والدفع بالحسنى، دعت إلى ضرورة تحييد الأديان والمعتقدات والمذاهب من الصراعات السياسية، ونادت بحوار الأديان والحوار بين المذاهب، وأنشأت مركزاً للحوار لإيمانها بأن الفكر هو المحرك الرئيسي والموجه الأساسي لسلوك الإنسان وتصرفه.
وأمعن بعض أهل الغرب في غيهم، فذهبوا للنيل من شخص حبيبنا ورسولنا محمد بن عبدالله، عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم، الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وضج العالم الإسلامي لانتهاك رمز عقيدته، وبالطبع حق له أن يفور الدم في عروقه، فسارعت السعودية مرة أخرى بمناشدة عقلاء الغرب لمناصحة مواطنيهم للكف عن مثل هذه الممارسات المشينة.
لكن أولئك أوغلوا في غيهم وتمادوا في طغيانهم، متذرعين بالدفاع عن حرية الرأي، حتى وقع الفأس في الرأس، وهاجم ملثمون، لم تحدد هويتهم وانتماءهم حتى كتابة هذا المقال، دار صحيفة شارلي إيبدو (Charlie Hebdo) الفرنسية في باريس، التي استمرأت التعصب الديني والمذهبي، وحذت حذو بعض صحف هولندة والدنمارك التي سبقتها إلى هذا المنزلق الخطير، فمنيت فرنسا بضربة قوية موجعة، لم تعرف مثلها من عام 1381هـ (1961م) إذ فقدت اثنا عشر قتيلاً، ثمانية منهم من العاملين في صحيفة شارلي إيبدو هذه، أربعة منهم رسامي كاريكاتير، إضافة إلى أحد عشر جريحاً.
فثار الغرب، وأرعد وتوعد، ثورةً أعادت إلى الأذهان صخب يوم الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م، متضامناً مع أمريكا إثر أحداث برج التجارة العالمي، التي غيرت اتجاه بوصلة السياسة في العالم، وأفضت به إلى كوارث لا يزال الناس يعيشونها ويعانون منها هنا وهناك، لاسيما نحن هنا في الشرق الأوسط. والله وحده يعلم إلى أين ينتهي تدحرج كرة اللهب هذه التي فرّخت العديد من التنظيمات المتطرفة في العالم كله، والخلايا النائمة التي قد تنشط فجأة كما حدث في باريس يوم الأربعاء 16-3-1436هـ، الموافق 7-1-2015م، في دار صحيفة شارلي إيبدو كما أسلفت. غير أننا لم نرَ هذا التضامن الصامد، ولم نسمع تلك الصيحة العالمية التي تدين الإرهاب وتجرمه وتتوعده بالحميم والسعير من العالم كله، لاسيما الغرب، يوم فقدنا ثلاثة من أعز أبنائنا قبل يومين فقط من حادث باريس، بل لم نرَ أو نسمع شيئاً من هذا أو ذاك، يوم فقد اليمن الشقيق أضعاف ما فقدت فرنسا في اليوم نفسه، إثر تفجيرات مدوية استهدفت كلية الشرطة بصنعاء فأودت بحياة (35) بعد أن تقطعت أجسادهم إلى أشلاء متناثرة، وقد اقشعر بدني وأنا أشاهد فرق الإسعاف تلم يداً من هنا ورجلاً من هناك وبقايا رأس بينهما، إضافة إلى (68) جريحاً معظمهم في حالة حرجة، وللأسف الشديد، كلهم من أجهزة الشرطة الجامعيين، الذين صرفت عليهم الدول جهدها ومالها لحماية أمن الناس وممتلكاتهم وصيانة أعراضهم.
وبالطبع، إن كنت أدين الاعتداء أياً كان، ومهما كانت المبررات والأسباب، أقول للغرب، عليه أن يعيد حساباته قبل فوات الأوان، وليكف عن التشدق بالحرية التي تعطي صحفه وإعلامه الحق في الإساءة إلى رسول أمة الإسلام، ثم يصادر حق المسلمين في الإيمان برسولهم وتعظيمه على سائر البشر. فكلنا يدرك أن الحرية لا تعطي الحق لأحد، كائناً من كان، أن يسيء إلى آخر، فما بالك أن يكون هذا الآخر هو رمز أمة، تؤمن به وتوقره وتحترمه وتحبه وتسير على نهجه، وتستعد للذود عنه بروحها ودمائها وكل ما لديها. ثم ما هي الفائدة التي تعود على الصحافة والإعلام الغربيين من الإساءة لأديان الناس واحتقار مذاهبهم؟! بل على العكس تماماً، أرى في هذا انحطاطاً أخلاقياً للغرب الذي يدعي العلم والتحضر واحترام حقوق الإنسان.
من جهة أخرى، على الغرب أيضاً أن ينتبه قبل فوات الأوان لسياسة الكيل بمكيالين، وليحرص على تحقيق العدالة التي يتشدق بها صباح مساء حتى إن تعارض هذا مع مصالحه، وليكف عن مناصرة الدولة العنصرية التي أوغلت كثيراً في امتهان كرامة الفلسطينيين ومصادرة حقوقهم وصب الحمم على أطفالهم ونسائهم وشيوخهم بسبب ادعاءات مغلوطة، بل على الغرب أن يسارع للأخذ على يد الإسرائيليين وإجبارهم على إعطاء الفلسطينيين حقوقهم وإقامة دولتهم المستقلة وتحقيق السلام الشامل العادل. وإن لم يكن يستطيع أن يفعل ذلك من أجل الفلسطينيين لأنهم مسلمين، فليفعله تطبيقاً لمبادئه التي تنادي بالعدالة واحترام حقوق الإنسان.
وليجد السير أيضاً لوضع حدٍّ للظلم، ومساعدة الشعوب المنكوبة في مصر وتونس وليبيا والصومال والسودان والعراق وسوريا وأفغانستان، وكثير من دول العالم التي تغلي بسبب الاضطرابات السياسة التي أؤمن يقيناً أن الغرب ليس بريئاً من إشعال فتيلها. وليفعل ذلك، إن لم يكن من أجل اللاجئين الذين لقوا حتفهم متجمدين على الحدود السورية مع تركيا والأردن ولبنان، فمن أجل مصالحه هو، فالحكمة تؤكد أن استقرار الأمن في أية دولة في العالم، يعزز الأمن والسلام العالميين.
وقبل الختام، أذكِّر رجال المال والأعمال في بلادنا الغالية، بما رددته مراراً، من ضرورة التنادي لتأسيس (صندوق شهداء الواجب) لنرفد به جهد الدولة رعاها الله، في مؤازرة أسر الشهداء، ونؤسس به وقفاً ينال منه كل شهيد حظه.. فهؤلاء ضحوا بأرواحهم الطاهرة ودمائهم الزكية من أجلنا كلنا، أفلا يستحقون منا عملاً بسيطاً كهذا، يكون وفاء لهم وحفظاً لعهدهم وتشجيعاً لزملائهم لحمل الراية؟
وعلى كل من أراد إدراك مدى التضحية العظيمة التي قدمها شهداؤنا الأبـرار، والخدمـة الجليلة التي ننعم بها بسببهم بعد الله سبحانه وتعالى، أن يتأمل أحوال الدول التي انفرط عقد أمنها من ليبيا إلى أفغانستان.. حفظ الله بلادنا وقادتنا وشعبنا وأمتنا من كل مكروه.
أخلص إلى أن الحل لكي ينعم العالم كله بالأمن والاستقرار والسلام، ويتفرغ الناس للعمل والعبادة على اختلاف دياناتهم ومذاهبتهم، يكمن في إرادة دولية صادقة لاحترام قيم العدالة التي تكفل للناس حرية العبادة والعمل والفكر والعيش بكرامة، دون اعتداء على حريات الآخرين. آملاً ألا يفهم أحد أنني أستجدي العالم لكي يدافع عن بلادنا ضد الإرهاب وتجار الخراب والدمار، وإن كنا لا نزهد في مناصرة كل القوى المحبة للعدل والسلام، فنحن -بحمد الله- نتكئ على خبرة تمتد لربع قرن تقريباً في محاربة هذه الآفة الشريرة، معتمدين على يقظة رجال الأمن وبسالة قواتنا العسكرية بمختلف قطاعاتها وتشكيلاتها.. واثقين قبل هذا وذاك، في وعد الله وقدرته سبحانه وتعالى على حماية بيته من كل أذى.. فهنيئاً لنا بأبطال أشاوس شجعان، مثل العميد عودة البلوي، والعريف محمد حلوي، والجندي يحيى نجمي وزملائهم على امتداد أرض الوطن الغالي الذين لا يرون شرفًا أسمى من الموت دفاعاً عن وطن الحرمين الشريفين.. وهنيئاً لنا قبل هذا وذاك، بقيادتنا الوفية المخلصة المدركة لهذه التحديات العاملة دوماً على ضمان تمتعنا بما حبانا الله به من خيرات عديدة، في مقدمتها نعمة الأمن والأمان والاستقرار.