المشهد المحلي الحالي يظهر أنَّ الاتجاه المجتمعي تجاه اللغة الإنجليزية يقع بين مقصلتي الاتجاه الرافض لحضورها، وتواجدها، وتداولها، بل وحتى تعلمها مدفوعاً على الأغلب باعتبارات يغلب عليها العاطفة، والخوف من مسألة مزاحمة اللغة العربية صمام الهوية الإسلامية، والتقاليد، والانتماء، وعلى الطرف الآخر مقصلة الاتجاه الاندفاعي المحموم الذي يرى ألاّ علو ولا شموخ لنا إلاّ من خلال
معرفة وإتقان اللغة الإنجليزية.. ويغيب على وقع هذين التيارين المتجاذبين الصوت الواقعي الذي ينأى بنفسه عن الانحياز غير العقلاني مع أحد التوجهين على حساب الآخر الذي واقعيته منطلقة النظرة إلى اللغة الإنجليزية من خلال استقراء موضوعي متوازن للواقع المعاش الذي يظهر من دون مراء اكتسابها أهمية متنامية في عصر العولمة، والتقنية، والانفجار المعرفي العالمي، وفي ظل التحولات السياسية المتسارعة، والعلاقات الاقتصادية الدولية المتنامية، ولجني فوائد إستراتيجية عُليا، وأخرى تربوية تعليمية من جراء معرفتها وإتقانها.. وقبل الخوض في مرتكزات النظرة الواقعية يحسن التأكيد على أن استشعار أهمية اللغة الإنجليزية ليست دعوة لإقصاء لغتنا الأم، وتوطينها في بلادنا، وإنما هي دعوة للتعاطي بواقعية مع مستحقات الفترة الراهنة التي نعيشها، وفي الوقت نفسه نحن بحاجة أيضاً إلى التعاطي مع بوادر، أو مؤشرات أولية لظاهرة بغيضة أطلت علينا برأسها مؤخراً والمتمثلة في جعل اللغة الإنجليزية لغة نلجأ إليها في تعاملاتنا في الشارع، وفي مؤسساتنا التعليمية، وفي داخل أروقة أماكن أعمالنا، ونعلن بزهو وفخر أن أبناءنا وبناتنا لا يتحدثون العربية، وإنما يجيدون الحديث باللغة الإنجليزية، ونصدح بأعلى صوتنا أننا نبذل الغالي والنفيس من أجل تعليمهم إياها على حساب معرفتهم وإتقانهم للغتهم الأم، وقد بلغ الأمر مداه حين نلمس مدى الحرج الذي يعتري أبناءنا وبناتنا عند الإفصاح عن عدم معرفتهم للغة الإنجليزية، أو عدم إتقانهم للحديث بها.
هذا الواقع المحزن ينمّ - كما هو الحال في تعاطينا مع كثير من الأمور - عن سوء تقدير وتعامل خاطئ، وبخس بحق الوزن، أو الثقل الحضاري للغة العربية، وتلك الممارسة غير الحصيفة يجب ألاّ تحول بيننا وبين التعامل مع ضرورة تقتضيها المرحلة الحالية.. وفي هذا السياق أيضاً يمكن الإشارة إلى أن رغبتنا في تعلية شأن لغتنا الخالدة يتطلب فتح قنوات وخلق أدوات لتمكين اللغة العربية بوصفها لغة حية من التفاعل مع اللغة الإنجليزية بالأخذ والعطاء مما لديها من معارف وعلوم حتى تزداد قوة ورسوخاً.. فعلى سبيل المثال نجد أن اللغة الإنجليزية استعارت عبر القرون مفردات من 350 لغة ولا تزال تستعير الأمر الذي زاد في إثراء مفرداتها.
وبالعودة إلى مرتكزات النظرة الواقعية نجد أنها تسند في نظرتها بناء على قراءة للمشهد الحالي الذي تفصح حاله رقمياً حيث يبلغ متحدثو اللغة الإنجليزية بصفتها لغة أم قرابة الـ380 مليوناً، ووصل عدد متحدثيها كلغة ثانية إلى الـ700 مليون مما يجعلها اللغة الأكثر تحدثاً بها بالعالم، وهي اللغة الرسمية لـ52 دولة، ويتحدث بها ثلث العالم، أو يفهمها إلى درجة معينة.. والأرقام تُنبئ أيضاً أن أكثر من نصف الدوريات العلمية والمجلات العالمية مكتوبة باللغة الإنجليزية، وأن 95% من المقالات العلمية كتبت باللغة الإنجليزية (70% من الدراسات اللغوية ونحو 80% من أبحاث العلوم الطبيعية تنشر باللغة الإنجليزية).. كما أن نسبة الكتب التي تنشر باللغة الإنجليزية اليوم بلغت 82%. إضافة إلى أن أكثر من 120 دولة في الأمم المتحدة طلبت أن تكون التعاملات بينها باللغة الإنجليزية، وهي إحدى اللغات الرسمية لأكثر من خمسين من البرامج والوكالات المتخصصة والهيئات الإقليمية والوظيفية واللجان داخل الأمم المتحدة. واللغة الإنجليزية اللغة المشتركة في التجمعات السياسية الدولية الرئيسة مثل رابطة دول جنوب شرق آسيا والكومنويلث والمجلس الأوروبي والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، ومنظمة الدول المصدرة للنفط، والمنظمة الأوروبية للتجارة الحرة، وغيرها.
هذا بالإضافة إلى أن 65% من البرامج الإذاعية في العالم تذاع باللغة الإنجليزية، بجانب أن 70% من الأفلام ناطقة باللغة الإنجليزية، وكذلك 90% مما هو منشور على شبكة الإنترنت هو باللغة الإنجليزية، وأنَّ ثلاثة أرباع الرسائل البريدية المتبادلة حول العالم مكتوبة باللغة الإنجليزية، وأنَّ أكثر من 70% من التواصل الإلكتروني من خلال شبكة الإنترنت يتم من خلال استخدام اللغة الإنجليزية، كما تبلغ نسبة مستخدمي الإنترنت من الناطقين باللغة الإنجليزية نحو 30%.. واللغة الإنجليزية لغة البحار، واللغة الرسمية للمراقبين الجويين حيث تستخدم أكثر من 180 دولة مصطلحات اللغة الإنجليزية التي أوصت بها المنظمة الدولية للطيران المدني (ICAO).
وإلى جانب هذا الاستقراء الرقمي نجد كذلك أنه لا غنى لا لنا عن معرفة وإتقان اللغة الإنجليزية لأنها أداة تعيننا على اللحاق بركب الحضارة الإنسانية، وتمكننا ليكون لنا إسهام في التقدم العلمي والتقني الذي يشهده عصرنا الحالي. وذلك لن يتأتى لنا تحقيقه في ظل عزلة، وانغلاق يحولان بيننا وبين الاطلاع والنهل من العلوم والمعارف التي يزخر بها العالم من حولنا، تلك المعارف، وبخاصة ذات الصبغة التطبيقية منها مكتوبة باللغة الإنجليزية نحن بأمسّ الحاجة إلى تعلّمها حتى يتسنى لنا لاحقاً نقلها إلى أوطاننا، ومن ثم توطينها.
والمنطلق الآخر يكمن في كون معرفة اللغة الإنجليزية وسيلة مهمة لنقل المعارف والعلوم من أمة إلى أخرى، ومن مكان إلى آخر، وأداة لخلق تلاقح ثقافي بين مختلف الثقافات، وبمثابة حلقة وصل لزيادة أواصر التواصل بين شعوب العالم.. وفي الإطار ذاته نجد أن لتعلمها كذلك مردوداً إيجابياً اجتماعياً يتمثّل في تمكين وتعريف المجتمع بعادات وتقاليد شعوب العالم، مما يؤدي إلى خلق مجتمع منفتح، واسع الأفق، متقبل ومتفهم لأنماط وعادات وتقاليد اجتماعية مختلفة عمّا لديه، ومحاولاً استقطاب وتبني المفيد من تلك العادات والتقاليد، وأكثر قدرة على مقاومة غير الحسن منها، والتسلح بأسلحة مناسبة طاردة لغير المفيد منها.. كما معرفتها تيسر للمجتمع سبل التفاهم مع العالم، وتمنحه القدرة على الاندماج فيه، والاستفادة من إنجازاته.
ويأتي المرتكز الاقتصادي المهم الذي يشير إلى أنه في ظل وجود مؤشرات وإرهاصات بظهور قوى وتحالفات اقتصادية جديدة، وفي ظل التنافس الاقتصادي المحموم؛ فإنه لا سبيل أمامنا إلاّ تعلُّم لغة المال والأعمال الأولى حتى يكون بإمكاننا عقد شراكات اقتصادية، ونقل تجار ومشروعات اقتصادية ناجحة، وتكوين فهم أفضل للتجارة العالمية، وفتح مجالات استثمارية تسهم عوائدها في رفاهية مواطنينا، وتعزيز قدرة اقتصادنا الوطني.
وإلى جانب هذه المرتكزات الإستراتيجية العليا بأبعادها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية نجد أن هناك فوائد جمة على العملية التربوية والتعليمية.. فتعلُّم اللغة الإنجليزية بصفتها لغة أجنبية ينظر إليه التربويون، أو على الأقل بعضهم على أنه وسيلة لخلق إدراك علمي أعمق، وفهم أسرع للتراكيب اللغوية التي يعجز الطالب عن استيعابها بيسر وسهولة خلال تعلمه للغته الأم؛ لأنه يقوم أثناء عملية تعلمه للغة الإنجليزية بالمقارنة بلغته الأم.. كما أن تعلّم اللغة الإنجليزية يعطي مرونة فكرية أوسع وأشمل للمتعلم؛ ما يجعله ذا عقلية تتمتع بتنوع أكثر.. وأشارت بعض الدراسات إلى أن الذين يعرفون لغات أجنبية يكون لديهم قدرات قوية على حل المشكلات، وتتشكَّل لديهم أيضاً قدرة على التحليل، والإبداع، والمقدرة على التعبير عن أنفسهم بطرق مختلفة، كما أن الدراية بلغات أجنبية تمنح متعلميها قدراً أكبر من الثقة بالنفس.
وفي الختام يبدو أنه من الأجدى ألاّ نطيل الوقوف عند قضية مسلَّمة، وإنما علينا أن نتجاوز في طرحنا لها الإطار الضيق المتمثّل في (مع، أو ضد) إلى نظرة أوسع، وموقف أجدى، وأعني بذلك: ماذا ينبغي لنا عمله حتى نجعل من أمر تعلُّم اللغة الإنجليزية تجربة ذات كفاءة ومردود إيجابي عالي القيمة؟