المباني العتيقة، الباحات الشاسعة، المقاهي الدافئة، وتلك الوجوه الشابة القادمة من كافة أنحاء العالم تلهث خلف قيمة عالمية شامخة عنوانها «العلم». هي صورة تتشكل أمام كل زائر محظوظ، تطأ أقدامه جمهورية هارفارد، أحد أغنى جامعات العالم، إذ يقدر وقفها باثنين وثلاثين مليار دولار وهو ما يفوق الدخل القومي لنصف دول العالم منفردة.
حيث قضيت أسبوعين من حياتي لحضور مؤتمر يستقطب طلاب من ثماني دول في قارة آسيا لحل مشكلات تعاني منها تلك الدول، بمشاركة عقول الطلاب المشاركين سواء من جامعة هارفارد أو من خارجها، ومن ثم إيجاد الحلول وتقديمها بتوقيع طلابي بحت أمام الجمهور تحت عنوان عريض للمؤتمر وهو «التكنولوجيا والجيل الجديد.. من الفرد إلى العالم».
رحلة كان لها الأثر العميق، والبصمة الخالدة، على فكري، رؤيتي، وتجربة حياتي المتواضعة. كل شيء بدا مختلفا في هذه المؤسسة التعليمية التي تصنف بأنها الأعرق والأقوى في أمريكا والعالم، بتاريخ يقترب من 400 عام على تأسيسها على يد جون هارفارد، طلاب يمشون على عجالة باتجاه فصولهم الدراسية، وخلف كل واحد منهم قصة إنسانية ملهمة، دفعت مكتب القبول في الجامعة لمنحه مقعداً وتفضيله على 94% من المتقدمين، وهم على علم ويقين، بأن ذلك المقعد «الحلم» سيغير حياته إلى الأبد، حيث يقال إن هارفارد هي أكبر تجمع لأذكياء العالم، وتخيل أن تعيش أربعة أعوام من حياتك، وأنت محاط بكم هائل حد الإنهاك من الإلهام والثقافة والحضارة، ويتم تحضيرك والتعامل معك ذهنياً ونفسياً بأنك قائد الغد، ومغير المستقبل، حتماً ستتبدل مسارات حياتك وسوف تنجز ولو جزئياً ما هو مأمول منك.
قابلت عشرات الطلاب في الجامعة، البعض منهم كان قادماً من إحدى البلاد المغمورة في أمريكا اللاتينية، والبعض الآخر من آسيا وأستراليا البعيدة، بالإضافة إلى عدد لا يستهان به من العالم العربي. تتحدث معهم فتبهرك فصاحتهم، ويذهلك طموحهم، وتثريك ثقافتهم، وتلهمك قدرتهم على صياغة الجمل الأفكار وحل المشكلات.
تتجول في حرم الجامعة ومن حولك مبان دراسية عتيقة يعود تاريخ بعضها لمئات السنين، درس تحت سقفها سبعة رؤساء أمريكيين آخرهم باراك أوباما وزوجته ميشيل، وأكثر من 45 فائزاً بجائزة نوبل، لكن الفصول والأروقة داخلها مجهزة بأحدث وسائل التعليم والاتصال والتدفئة، تعبر الباحة الشهيرة وتجد بجانبك مركز أبحاث علمي ضخم تبرعت لإنشائه عائلة «كوداك» أشهر العائلات الثرية في أمريكا، ثم تمضي فتجد أمامك مبنى مهيباً ذا أعمدة إغريقية شامخة، هو لإحدى أكبر المكتبات الجامعية في العالم تحتضن 19 مليون كتاب، و400 مليون مخطوطة، تبرعت لإنشائه والدة إحدى ضحايا سفينة تايتانيك كان يعرف عن ابنها الغريق حب القراءة وجمع الكتب، فتبرعت بكافة كتبه للجامعة، وأمرت بإنشاء مكتبة كاملة، يذكر أن تلك المكتبة الضخمة والموجودة في باحة الجامعة، لم تسع جميع الكتب، فتم حفر أنفاق تحت الأرض لتسع الآلاف من الكتب التي تغطي كافة العلوم والمعارف الإنسانية. ليظل السؤال يطرح لأثرياء ورجال أعمال العالم العربي عن غيابهم عن دعم تلك المشاريع التي تستثمر في العقل والعلم والإنسان، بدلاً من أن يؤطر عطاءهم في بناء مسجد أو شراء برادة أو جمع صندوق أرز وطحين وفيمتو وقشطة للمحتاجين كصدقة جارية؟!
الجنسية، الدين، المذهب، والميول السياسية لا قيمة لها في جمهورية هارفارد، إذ تتصدر القيمة العلمية المشهد، واضعة أي اعتبارات قبلية أو دينية أو عرقية في أسفل القائمة، فالكل في هذه الجامعة مشغول بنسج قصته الخاصة وسكب سنوات من العرق والجد والاجتهاد فوق سيرته الذاتية التي غالبا تتجاوز الحصول على شهادة ورقية فحسب، وتصل إلى المشاركة في النشاطات الرياضية والمؤتمرات السنوية، والبحوث العلمية والحفلات الخيرية.. فيتخرج الطالب وهو يحمل أكثر من شهادة، إحداها في العلم وأخرى في فن التعايش والتسامح الفكري والإنساني، دون أن ننسى تلك الشهادة التي عمل على صياغاتها كل أستاذ درس تلاميذه، بأن العالم بحاجة إلى طلاب هارفارد، والبشرية ما برحت تنتظر عطاءاتهم التي تخطت دواء «الباراسايتمول» وأبحاث الخلايا الجذعية، ومئات البحوث القانونية والاجتماعية والمختصة في قطاع الأعمال.
ما المميز في هارفارد؟ هكذا سألت زميلتي «تايلور» التي تشاركت وإياها السكن في حرم الجامعة، فأجابت تجربة الدراسة في هارفارد لا تنتهي بمجرد خروجك من الفصل الدراسي، بل هي تمتد لكافة تفاصيل وجودك في منطقة كامبريدج التي آمنت بأنها منارة العالم للعلم والتقدم البشري، حيث تضج تلك المنطقة بالمكتبات والمتاحف ومراكز الأبحاث التي تملكها وتديرها الجامعة، والمقاهي المزدحمة «بقروبات» الطلاب الذي يتناقشون حول مشاريعهم وأوراقهم الدراسية، ومحطات المترو والباصات التي تحمل شعار هارفارد والمسخرة فقط لخدمة الطلاب والكادر التعليمي، المحلات التجارية التي تقدم خصوماتها الخاصة للطلاب، والبنوك المستعدة للتخطيط معك لإنشاء حساب توفيري، وصحيفة الجامعة التي تنشر كل صباح آخر أخبار الجمهورية وشعبها المختلف الألوان والأعراق، دون أن ننسى جدول الجامعة المزدحم باستقبال شخصيات عالمية فذة من مختلف أصقاع العالم ليشاركوا الطلاب تجاربهم وقصصهم في الكفاح والفلاح، ويسمحوا للطلاب بالنقاش معهم حول قضايا العالم التي تؤرقهم، كجيل مثقف ومطلع على ما يدور كل لحظة في هذا العالم، وقادر على صياغته أحداثه بإمكانياته اللا محدودة.
تلك البيئة الجامعية الاستثنائية كفيلة بصناعة جيل «هارفاردي» استثنائي لا تنتجه أي جامعة أخرى في العالم، جيل شغوف بصياغة وصناعة غد أفضل للبشرية، يتقن مهارات التواصل والبحث والتنقيب عن حلول ناجعة في السياسة والطب والقانون والاقتصاد وعلم الاجتماع الأحياء والجينات وغيرها الكثير.. فلكم أن تتخيلوا لو كان لدينا هارفارد واحدة في العالم العربي كم كان سيكون واقعنا مختلف؟ ولو كان لدينا أجيال تشبه تلك التي تشكلها هارفارد كم كان المستقبل سيبدو مختلفا ً مفعماً بالثقة واليقين، بدلاً من الحيرة والارتباك، مشبعاً بالطموح والإرادة، لا بالإحباط والغموض..
مقال واحد لا يكفي.. لذا للحديث بقية!