ما سيأتي من قول ليس «بمرثية» فالرثاء رديف الفناء، لكنه قول الحق عن رجل شهد له العالم أجمع بالعظمة والمواقف الخالدة.
لم يكن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - رحمه الله - حاكما بالمفهوم التقليدي، بل أراد - رحمه الله - أن يثور على الصورة التقليدية للحاكم، بكل ما تحمله تلك الدلالة للثورة، ولعل ذكاءه الفطري قبل ذكائه السياسي - رحمه الله - هو الذي ألهمه باختيار القرارات التي شكلت فيما بعد لِم سعى إليه من تجديد الصورة النمطية للحاكم مع شعبه، إضافة إلى ما يتصف به من كاريزما وجاذبية دفعت الشعب السعودي رجالا ونساء وأطفالا إلى التفاف حوله، وما يتحلى به من سماحة وبساطة ورقة زادت شعبيته لدى شعبه فهو بما يتحلى به من سماحة وبساطة ورقة جعلته قريبا من أب أو الأخ الأكبر لكل فرد من أفراد الشعب السعودي، والمعادلة الأصعب ها هنا أن تلك الكاريزما والجاذبية الإِنسانية والسماحة والبساطة قد تجاوزت حدود السعودية لتمتد عبر خريطة الوطن العربي والأقليات الإسلامية والذي سنجد عند كل منهم رمزية خاصة لهذه الشخصية العظيمة باعتراف الواقع والتاريخ.
محبة الناس نعمة من الله ودلالة على صفاء نفس صاحبها وتقواه ومحبته للناس.
لقد استطاع الملك عبد الله بن عبد العزيز - رحمه الله - أن يسنّ استراتيجية في علاقاته مع شعبه تقوم على الواقعية والشفافية تفتقدها أعتق الديمقراطيات في العالم؛ لأنه آمن قولا وفعلا بهذا الشعب وحاجاته وطموحاته إيمانا صادقا فرضه عليه ضميره لا دستور مكتوب أو برلمان ضاغط بالقلم والمسطرة أو تنظيرات سياسية ضابطة لعلاقة الحاكم بشعبه، تلك الاستراتيجية هي التي حمت المجتمع السعودي من الأصوات الهدامة لوحدة أمن المجتمع وسلامته، وفي ظروف كانت الأصنام فيها تتهاوى من حولنا.
لقد علّم الملك عبد الله بن عبد العزيز - رحمه الله - العالم أجمع بأن «الحب هو الذي يصنع أمن المجتمع» لا «الظلم والجبروت والطغيان» وصناعة الأصنام.
***
لم تكن محبة الناس اللافتة للنظر بين عبد الله بن عبد العزيز - رحمه الله - والناس والعلاقة التي تجاوزت المفهوم النمطي للحاكم والرعية هي العلامة الفارقة في عهده التي ستتأملها كثيرا ذاكرة التاريخ، إنما هي إحدى العلامات الفارقة في هذا العهد القصير بالزمن الممتد في عمق النهضة والحضارة الحاضرتين التي اختصرت عشرات السنوات المكافحة اختصارا لا يحمل معجزة بل يحمل شجاعة في صناعة القرار وتنفيذه.
لقد ارتبط الإصلاح باسم عبد الله بن عبد العزيز - رحمه الله - فكان علامة ثانية من العلامات الفارقة التي تميّز عهده بها؛ الإصلاح بما يتفق مع طبيعة ذكاء هذا الرجل الفطرية ورغبته في تشكيل تطوير يحقق المعادلة الصعبة في حياة الشعوب معادلة تجمع بين المحافظة على هوية المجتمع، وتحلّق به في ذات الوقت في سماء التفاعل العولمي ليصبح عضوا مساهما في المنظومة العالمية.
لم يقد الملك عبد الله بن عبد العزيز - رحمه الله - شعبا نحو النهضة الجديدة إنما صنع فكرا نهضويا لهذا الشعب سيظل نبراسا له في أحلك لحظات العتمة الرجعية.
عشرات قد ينظرون لماهية الإصلاح ومنظومته الإجرائية لكن القوة هاهنا ليست لمُؤلف التنظير، إنما لمن يستطيع أن يصنع حقيقة ذلك الإصلاح، فالتنظير لا يصنع حقيقة، هذه هي الفلسفة التي أسسها الملك عبد الله بن عبد العزيز وسار عليها «الفعل أساس الحقيقة» وهكذا تعلّمنا منه أوليات صناعة الإصلاح.
سيظل المراقبون الفكريون والثقافيون مدة من الزمن في استجماع منطقهم التحليلي لاستقراء كيفية تشكيل المعادلة الإصلاحية التي تبناها المغفور له - بإذن الله - عبد الله بن عبد العزيز؛ لأنها تتجاوز المألوف التنظيري لِم استطاعت تلك المعادلة من التوافق بين الرضا الجمعي وحتمية التغيير.
وهو توافق قلما يستتب له الأمن في غالب المجتمعات؛ لأن دلالة الإصلاح دلالة توجسها أكثر من طمأنينتها ونواياها المبيتة غامضها أكثر ترويجا من واضحها.
ولكن في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز - رحمه الله - تجاوزت دلالة الإصلاح ما يُمتر فيها من اعتيادية دلالية؛ وذلك بفضل محبة وثقة الناس في صانع ذلك الإصلاح، فإيمان الأفراد بأي تغيير أو إصلاح يبدأ من ثقتها بمؤسس ذلك التغيير أو الإصلاح أو صانعه، لأن تلك الثقة هي التي تجذّر أحادية الدلالة وتحميها من أي امتراء أو إشارات خفية في طيّ تلك الدلالة.
لقد آمن الشعب السعودي بهذا الرجل وهو الإيمان الذي جعلهم يمنحونه مطلق الثقة، ولذلك سارت عملية الإصلاح في عهده بيّسر وسهولة، دون معوّقات تُعثّر مشروعه الإصلاحي.
إضافة إلى أن المشروع الإصلاحي الذي تبناه - رحمه الله - كان في عمق احتياجات نهضوية المجتمع السعودي والكشف عن الطبيعة السلمية للشعب السعودي وقدرته على التعايش المشترك مع الثقافات المختلفة والمذاهب المتعددة.
وذلك الإصلاح الذي استهدف بصورة مباشرة بناء الخلفية النهضوية التي كان ينظر إليها العالم بصورة مشوشة.
لقد تبنى - رحمه الله - إصلاح الجوانب التي كانت تؤذي صورة الشعب السعودي في الإعلام العالمي، فجاء دعمه للمرأة ومناهضة أي تمييز نحوها وفتح لها أبواب العطاء والعمل والمشاركة في العمل السياسي، وسيُخلد له التاريخ ضمن ما سيخلد له أنه أول من فتح أبواب مجلس الشورى للمرأة وأول مناصب وزارية وحكومية رفيعة المستوى نُصبت فيها المرأة كانت في عهده، لقد ساند المرأة في قضاياها وكما فتح لها أبواب مجلس الشورى فتح لها أبواب سوق العمل، وقد ظهرت نتيجة دعمه - رحمه الله - للمرأة في انضمام أكثر من امرأة سعودية إلى قائمة أكثر النساء العربيات تأثيرا، وكانت مساندته للمرأة ليست لتصحيح المفهوم العالمي السائد الذي يقرن اضطهاد المرأة بتشريعات الإسلام فقط، إنما لأيمانه الذاتي بقدرة المرأة على العطاء والبناء وما تملكه من كفاية وكفاءة يتساويان مع الرجل.
وستظل المرأة السعودية في مستقبلها الآتي مخلدة هذه المساندة التي صححت المفهوم الحقيقي للمرأة داخل المجتمع قبل الخارج.
إن نجاح الإصلاح لا يتم إلا عبر الكشف عن المسكوت ومواجهة الأمور كما تبدو في حقيقتها، ولذلك حرص الملك عبد الله بن عبد العزيز - رحمه الله - على فتح طاولة الحوار لكل مستور بالمسكوت أو تحت الرماد، ولذلك ظهر لأول مرة في تاريخ السعودية الحديث «قضية الاختلاف المذهبي في السعودية» ووسع هواء حرية الرأي والفكر للمذهب الشيعي والاتجاهات الفكرية المختلفة، وبذلك جاء «الحوار الوطني» دعما للجدية الفكرية التي ينتهجها الإصلاح في السعودية، وفكّاً لحصار القمع والتكتيّف الفكري ودفعا نحو التوازي بين التيارات الفكرية المختلفة والتوازن المنطقي بين المذاهب الدينية، لتحقق مقولة «الوطن للجميع والدين لله».
لقد استطاع المنهج الإصلاحي الذي تبناه الملك عبد الله بن عبد العزيز - رحمه الله - أن يؤسس للوسطية عينا بصيرة وقلبا حكيما وهما من قصَّا أجنحة غراب التطرف والتزمت والإرهاب الفكري.
ولم يكتفِ - رحمه الله - بنشر ثقافة التسامح داخل المجتمع السعودي إنما امتدّت تلك الثقافة لأرجاء العالم من خلال مشروعه «حوار الأديان والحضارات» ليثبت للماكينة العالمية الإعلامية أن هذه البلاد ليست مصدرا ولا مُفرِخا للإرهاب، بل هي راعية التسامح الديني والمذهبي والفكري، ولذلك استحق - رحمه الله - أن بشهادة العالم والأعداء قبل الأصدقاء أن يكون رجل السلام وبشهادة شعبه حبيب الشعب وملك القلوب والإِنسانية.
لقد عشنا عشر سنوات سمان لم ير الشعب فيها إلا الخير والإصلاح والتسامح والسلام.
رحم الله عبد الله بن عبد العزيز وأدخله فسيح جناته.
***
إن الأمل يظل متجددا لأن العائلة الحاكمة تمتلئ بالأبطال والمصلحين والتنويريين الذين يسيرون في نفس الطريق ويكملون نفس المشروع، وهذا النهج هو الذي أسس الأمن المجتمعي والسلامة السياسية للشعب السعودي، فهو منهج أصيل منذ المؤسس الأول - رحمه الله - الذي سار على دربه أبنائه ولذلك لم تسطع ولن تستطيع القلاقل التي تحيطا بنا أو الأصوات السوداء المندسة بيننا أن تُهز ثقة هذا الشعب الطيب المُحِب للأمن والسلام بولي أمره وحكومته.
أعان الله خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود رجل الصلاح والإصلاح على الأمانة التي تُثقل كاهله وهو أهل لها، وحفظ الله لنا وليّ عهده الأمير مقرن بن عبد العزيز آل سعود وبارك الله لنا في الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز آل سعود رجل المهمات الصعبة واليد الحامية لهذا الوطن العظيم.