Saturday 01/11/2014 Issue 449 السبت 8 ,محرم 1436 العدد
01/11/2014

فلسفة الدين(3)

إن مصدر أي إشكالية هو سلطة الأحادية التي تقيّد حكمنا على الأشياء والقيد دليل صحة بالثبات،كما هو شائع كما أنه سند توثيق لتقليد قائم بالإتباع، وقد يرد آخر بقول إن ذلك هو ما تقتضي آلية الحكم؛ إذ لا حكم بين متوزانات ولا مترادفات ولا متشابهات ولا معادِلات، ومن الطبيعي أن يجري الحكم بين الأمور القائمة على القواطع والفروق والخلافات، كون تحقيق المفاضلة هنا واجب بالضرورة، وتلك الوجوبية هي الداعمة لقيمة القيد وصلاحيته، مما يعني أن الأحادية هنا برهان تأكيد مقابل نقض أو برهان نفي لنقض مقابل برهان تأكيد.

ولذلك تظل الأحادية في ميزان الحكم «إله كسر في ذاتها» «لا إله إقامة».

والحديث عن الأحادية هنا ليس على مستوى التقدير العام لصفتها؛ لأن التقديرات غالباً لا تملك سلطة إلزام وإن كان تأثيرها في تأطير قيمة لا يمكن أن نتجاوزه بالتصغير؛ لِما لذلك الإطار من معادِل لتوثيق الصفة وهنا الموصوف يحاط بحيلة الأحادية، وهي حيلة مقصودة من قبل صانع خطاب المشيئة لإضفاء قدسية مستقلة بالموصوف.

والإطار المطلي بالقيمة ليس هو الحيلة الوحيدة لصناعة الأحادية، فهناك القولبة الحاصلة من العادة والعرف وكذلك القطع ومسلّمة الحدّ.

وقد يظن القارئ هنا أن هناك تداخلاً بين الأحادية والماهية؛ إذ كون الماهية هي «القول القاطع للحد المعرفي».

ولا أظن التداخل وارداً بحسب الآتي وهو أن القطع والحدّ هما البرنامج التوصيفي للماهية التي تُصاغ في ضوئه خصائص الماهية.

ووجود برنامج توصيفي فيه سعة لحصول تمدد وتطور للماهية؛ لإتاحة قدرة التأثير لمجموع الإضافات المرافقة لسلم تطور التجربة الإنسانية، وبذلك يُعد البرنامج التوصيفي آلة ضبط لا آلة غلق، ولذا «لا ماهية مقدسة» إنما ماهية مقدّرَة بحسب مراعاتها لسلامة التطور المنطقي للتجربة الإنسانية ومرونتها في جذب توافق الاستحقاقات المختلفة.

والأمر يختلف بالنسبة للأحادية؛ فأوليات الوعي غالباً ما تتأسس على تقدير عام للثنائيات ذات الحدّ الضديّ؛ الصواب والخطأ، الحلال والحرام، الحب والكره، الرفض والتأييد، الكفر والإيمان.

وهو تأسيس أيضاً غالباً ما يؤجل القيمة التعليلية لاختيار التقدير، وهو تأجيل قد يكون مقصوداً لصناعة أحادية لحدّ التقدير حتى إذا استوى الوعي صعُب عليه ربط القيمة التعليلية بالتقدير المؤلِف لتلك القيمة أو الفهم، والقصد هنا يُدِخل ذلك التأسيس في دائرة الاحتيال على الوعي لغرض التمكين لأهداف القصدية وخطابها، ولتربية الوعي على «منطق القطبية»؛ «إن لم تكن معي فأنت ضديّ» وتحقيق أحادية متطرفة.

ولذلك يمكن اعتبار الأحادية «صفة مستقلة في ذاتها» وليست «خاصية» مرتبطة بمتغير أو برنامج توصيفي كالماهية، وكونها «صفة مستقلة في ذاتها» فهي حامل «لمعلوم ثابت بالمشيئة المقدّرَة»، والمعلومية في ذهنية الأحادي هي الداعمة «للقطع» باعتبار أن «كل معلوم ثابت المعرفة متجاوزاً الإضافة» وكل إضافة حسب تلك الذهنية فيها إلغاء لمعلوم ثابت ودفعه للمجهولية، في حين أن المعلومية ليست رافعة للإضافة إنما رافعة للمجهولية.

وهذا الربط بين الإضافة والمجهولية على اعتبار أن الإضافة خاصة بالمجهولية، والربط بين القطع والمعلومية على اعتبار أن كل معلوم ثابت مقطوع عن الإضافة، هي التي تُفرض على الذهنية العامة عدم تقبل «فلسفة الدين» أو «فكرنته»؛ لِما فيه من تهديد للمعنى المتداول للدين كونه «حاملاً لمعلوم ثابت بالمعرفة المقدسة» وأي إضافة جارية لمعلومه الثابت فيه تجاوز لقدسية الفاعل الأول.

إن المعنى الأولي الذي يتبادر إلى ذهننا عند سماع مصطلح «الدين» هو معنى مبطن بالقدسية، وذلك التبطين يُخرج «الدين» من الإرادة الإنسانية القائمة على الحرية والاختيار إلى إرادة ميتافيزيقية قائمة على القدرية والجبرية.

والتبطين المقدس لمعنى الدين لا يقف ها هنا إنما يتعدى بالمقابلة إلى التعبئة والإفراغ؛ فمن لا يملك ديناً ببطانة مقدسة فهو بلا دين، وبذلك يُحدد محيط «اللا ديني» بإفراغه من المُقدّس، والذي لا يمكن تعويضه بتعبئة إلا من خلال إسقائه بمقدّس ميتافيزيقي مُروِّج لثنائية القدرية والجبرية.

ولكن هل هذا المسار لمفهوم الدين حقيقي؟.. أو بمعنى آخر أليست كل عقيدة هي حاملة «لكفاية دينية»؟.

والكفاية الدينية هي مجموع التعاليم القادرة على تشكيل نهضة الفرد أو الجماعة والداعمة للمقتضى الأفقي لكل قابل يمثّل تطوراً.

إن مفهوم الدين خارج إطار أي بطانة أو خلفية هو «الاعتقاد الجازم بصدق حيوية فاعل قدير» وذلك الفاعل قد يكون المقدس أو العلم أو المادة أو الفن، ووفق هذا المسار فليس هناك «الديني» و»اللا ديني» فكل من يملك عقيدة يملك ديناً، ولكل منا له «ما يعتقد بصدق حيوية فاعل قدير» يؤثر على صلاح ونهضة الفعل الإنساني ومعاشه وآثاره، وبهذا المعنى فإن كل مصطلح يمكن أن يمثّل ديناً وفق ضوابط وشروط خاصة.

إن «مصطلح الدين» كأي مصطلح أُقيم تأسيسه على «الاتفاق الجمعي لِمُعرّف مُثبت الدلالة والتأثير».

وفردية الوحدة التعريفية هي غالباً مصدر الصراع لأي تطور يلحق بالمصطلح؛ لأن «الاتفاق في ذاته قوة مقاومة» للتشكيك والتفكيك،كما أن ذلك الاتفاق هو الذي يرسم الإطار الأيديولوجي للمصطلح؛ فليس هناك اتفاق مطلق على وحدة تعريفية لأي مصطلح، وهذا لا يعني بدوره إزالة القيد عن ضابط الاصطلاح مما يعني أن المحتوى المعرفي لأي مصطلح غالباً ما يخضع للفئوية بمراتبها وأنواعها المختلفة الفئوية المُؤوِلة لِما يُحسب على كونه كحقيقة وحكم وتصريح، وذلك يُعزز الإطار الإيديولوجي للمصطلح ويزيد من قوة مقاومته سواء بمعنى الدفاع أو الصراع أو الإثبات.

وبقولي السابق لا أتجاوز «المُعرّف اللا هوتي» لأنه ليس محور النقاش، فمحور النقاش التشكّل الدلالي لكل ما يُحسب «معتقد يتصف بالجزم والصدق» أي تفحص نشاط المفاهيم التي تؤدي إلى الوصف «بفاعل المشيئة المقدرة» والتأهيل لفاعلية التمكين وفق بيان ينتمي إلى جهاز مفهومي ومحضن معرفي تتشكّل من خلاله الأفكار المقدسة؛ أي الانتقال إلى «ثقافة شعبية متداولة».

ثقافة تدل وتعبر عن كينونة ذلك المصطلح، بحيث يصبح الجميع داخل دائرة الكهروتأثيرية من فاعل التنفيذ وفاعل التأثير والمتلقي والخطاب والارتداد.

وما يجب أن يُؤخذ في الاعتبار أن وجود الإطار الأيديولوجي الذي تتحرك فيه دائرة الكهروتأثيرية هو الذي يمنح المصطلح حيوية العلاقة والتفاعل المؤيدة لتاريخية الاتفاق الجمعي والداعمة لاستمراره والمُولّدة لمجالات استعمارية تزيد من مساحة وكثافة ذلك الاتفاق وصدقيته؛ والمقصد من المجالات الاستعمارية تمدد برهان الإقناع الموجب لصدقية محتوى الاتفاق، أو وجوبية العلاقية التي تختص بها الدلالة الاصطلاحية وذلك التمدد لا يخلو حيناً من عنفية الفرض.

وقد يتبادر إلى الذهن ما علاقة القصدية أو «فاعل المشيئة المقدرة» بمصطلح الدين؟.

وببساطة يمكن القول إن العلاقة بينهما علاقة تراتبية فالمصطلح يسبق القصدية، وهنا أقصد كل مصطلح يسعى إلى «فاعلية التمكين» والقصدية بأوعيتها هي الإجراء الوظيفي لتنفيذ وتطبيق فاعلية التمكين الذي يسعى إليها المصطلح.

- جدة