لم يُجانب العقلاء الصواب في التحليل، والإنصاف في الرؤية، عندما ذكروا تحت العنوان الرئيس في الحديث عن مشهد البيعة، بأن ما يميز بلادنا عن غيرها مرونة، وسلاسة إشغال مناصب الحكم - لدينا - وهذا ما لمسه الجميع - بحمد الله - . فالبيعة الشرعية بين التأصيل الشرعي، والجذور التاريخية للدولة السعودية، باعتبارها الركن الأهم لقيام
الدولة، هي ضمان استقرار، وأمن البلاد، بعيدا عن الانشغال بالإشاعات، وإرجاف الناس، وإثارة النفوس، وتهييج القلوب، وإذكاء الفتنة.
تُعتبر البيعة الشرعية، الضامن الرئيس لوحدة البلاد، واستقرارها، وبناء حضارتها. كما أنها الميثاق الذي يربط المواطن بولي أمره - وبالتالي - انتظام شؤون العامة، وأحوالهم. بل هي ميثاق الولاء للنظام السياسي الإسلامي، وهي أصل الأشياء - كلها - إِذْ تعني البيعة: المبايعة، والطاعة من الراعية للراعي، وإنفاذ مهمات الراعي على أكمل وجه.
وتأسيسا على ما سبق، فإنَّ إجراءات البيعة تنقسم إلى مستويين متتابعين متلازمين :
1 / بيعة الانعقاد: وبموجبها ينعقد للشخص المبايع السلطان، ويكون له بها الولاية الكبرى دون غيره؛ حسما للخلاف حول من يتولى أمر المسلمين، وهذه البيعة هي التي يقوم بها أهل الحل، والعقد، ودلائل هذه البيعة واضحة تماماً في انعقاد البيعة للخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم أجمعين - فقد كان أهل الاختيار يقومون باختيار الإمام، ثم يبايعونه بيعة انعقاد أولية.
2 / البيعة العامة، أو بيعة الطاعة : وهي بيعة شعبية عامة للكافة من الأمة، أي : بيعة سائر المسلمين لولي الأمر، وهذا ما تم بالنسبة للخلفاء الراشدين - جميعا - فأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - بعد أن بايعه أهل الحل والعقد من المهاجرين، والأنصار في سقيفة بني ساعدة، دُعِي المسلمون للبيعة العامة في المسجد، فصعد المنبر بعد أن أخبرهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - باختيارهم له، ومبايعتهم إياه، وأمرهم بمبايعته، فبايعه المسلمون، وما حدث مع أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - حدث مع كل الخلفاء الراشدين، وهي البيعة التي تمت تاريخيا في عاصمة الدولة، ومركز الحكم، ثم كان يطلب من كل وال من ولاة الأمصار أخذها للخليفة.
ورغم كل التحديات التي تواجهها المملكة، والمنعطفات الحرجة التي تمر بها المنطقة، إلا أن الإجراءات الدقيقة المتبعة، والقائمة على أسس التداول الأخوي للسلطة، والمتفقة مع مبادئ الدين الإسلامي الحنيف، تؤكد على تعزيز إرادتها الصلبة في مواكبة التغيرات، واستشراف المستقبل في ترسيخ أسس الدولة الحديثة، وتحقيق التنمية الشاملة في أنحاء البلاد.
ما يميّز الدولة السعودية، أنها قامت على أسس شرعية، مصدرها القرآن، والسنة. وعليه، فقد حددت إليه انتقال السلطة في المادة الخامسة من النظام الأساسي للحكم، والتي تنص على، أن : « نظام الحكم في المملكة العربية السعودية ملكي، ويكون الحكم في أبناء - الملك المؤسس - عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، وأبناء الأبناء، ويبايع الأصلح منهم للحكم على كتاب الله - تعالي - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ويختار الملك ولي العهد، ويعينه بأمر ملكي، ويكون ولي العهد متفرغا لولاية العهد، وما يكلفه الملك من أعمال، ويتولى ولي العهد سلطات الملك عند وفاته، حتى تتم البيعة «.
من يقرأ نظام الحكم في المملكة، سيقرأ قصة مثيرة في وضوح الأنظمة التي تحدد المهام؛ من أجل استقرار البلاد، وثبات سياستها، والمضي قدما نحو المستقبل بخطى راسخة الثبات؛ لتثبت المملكة أنها دولة ذات مؤسسات، وأن سياسة حكيمة تنتهجها في الداخل، والخارج، هدفها تحقيق الأمن الشامل، والسلم الاجتماعي.
من جانب آخر، لم يكن قرار تعيين - الأمير - مقرن، سوى ترجمة للمادة الخامسة في الباب الثاني من نظام الحكم، وفيه : « 3 - تتم الدعوة لمبايعة الملك، واختيار ولي العهد وفقا لنظام هيئة البيعة «، والذي جاء مكملا لنظام الحكم، وذلك بنصّ المادة التاسعة، حيث : « يتم اختيار ولي العهد وفقا لحكم المادة السابعة، في مدة لا تزيد على ثلاثين يوما من تاريخ مبايعة الملك «. الأمر الذي شكّل انطباعا هادئا عن الانتقال السلس للمسؤولية، وتسيير العمل في البلاد، وقطعا لدابر الإشاعات، والتكهنات، والتأويلات. وهو ما أكده كريستوفر بوسيك أحد مؤسسي مؤسسة « كارنيغي «، حين قال : « إنه نادرا ما شهدت السعودية حالة عدم استقرار، فالأسرة الحاكمة - دائما - تجتمع، وتوحد صفوفها بسرعة؛ لتقرر ما يجب فعله بسرعة عند وفاة أي ملك «، وأضاف : « لن يكون هناك أي فراغ في السلطة «. - ومثله - يقول الخبير في الشؤون السعودية، وواضع كتاب « جيو سياسية السعودية « اوليفييه دالاج : « على عكس كل المخاوف، فإنَّ الخلافة لطالما حصلت بسلاسة في السعودية «.
إسناد ولاية ولي ولي العهد - للأمير - محمد بن نايف، لم يكن مفاجئا للمراقبين، والمهتمين في الشأن السعودي، بل هو احتفاء بركن من أركان الدولة. فالاختيار قد صادف أهله - ولاسيما - أنه يتمتع بشخصية قيادية، استلهمها من شخصية - الأمير - نايف بن عبد العزيز - طيَّب الله ثراه - فأثمرت نتاجا لخبرته المتراكمة. وسيحمل - الأمير - محمد بن نايف راية ولاية ولي ولي العهد؛ لقناعة - خادم الحرمين الشريفين - الثابتة، وإيمانه الراسخ بقدرات ابن أخيه؛ فهنيئا له بهذه المسيرة الحافلة بالإنجازات غير المسبوقة، بما في ذلك إضافة وزارة الداخلية، وهو - بلا شك - تكليف في طيّه تشريف، وما ذاك إلا لأن التكليف سيزيد الحمل حملا، والتشريف سيؤكد الصفات النبيلة التي يتمتع بها سموه الكريم، وفي مقدمتها : قوة الإيمان، وقوة الإحساس بالمسؤولية الوطنية.
ثم إن هذا الالتفاف الشعبي، والاصطفاف الوطني الذي رأيناه حول القيادة، قلّ أن تجد نظيرهما في العالم - اليوم - هو خيار استراتيجي، يُنبئ عن قوة الوحدة الوطنية، وتلاحم الجبهة الداخلية، بشكلهما، ومضمونهما الحقيقي. كما يُنبئ عن مشهد حضاري للعالم، تجسد فيه قيم الانتماء الوطني، والبناء الاجتماعي الراقي.
ونظرا؛ لما يتمتع به علماء المملكة العربية السعودية من ثقة لدى ولاة أمر هذه البلاد، وعامة جمهورها، فقد جاء تأكيد سماحة مفتي عام المملكة - الشيخ - عبد العزيز آل الشيخ على شأن البيعة؛ لما لها من أهمية مركزية في النظام السياسي، فلزوم منهج أهل السنة، والجماعة من سمات الفرقة الناجية من عذاب الله، وهو - مطلب مهم - إِذْ لا جماعة بلا إمارة، ولا إمارة إلا بسمع وطاعة. ولذا جاء في كلمة المفتي، بأن : « بيعة خادم الحرمين الشريفين - الملك - سلمان بن عبد العزيز، بيعة شرعية، وتؤكد على الجميع الالتزام بها، والمحافظة عليها؛ لأنّها بيعة شرعية «.
إذن، هي حكاية عظيمة تُثير الإعجاب، أن نرى مشهدا شعبيا، ملتفا حول قيادته، ومتمسكا باستقلالية قراره، ينشد الخير، والإصلاح، ويقف صفا منيعا ضد كل أشكال التدخلات الخارجية، أو الممارسات الأقلية التي اتخذت من الفجور السياسي سبيلا لها، - ومثلها - بعض وسائل الإعلام التي شنتها قنوات فضائية مأجورة؛ لسرقة الأنظار عن المشهد الجديد في عملية بناء البيعة، ممن تشاءموا بالخلاف، وانفراط عقد الاجتماع، والائتلاف.
وبعيدا عن البروتوكولات الرسمية، فقد تقاطرت الوفود الرسمية، والشعبية من كل مكان - حبا وولاءً - تبايع خادم الحرمين الشريفين - الملك - سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده - الأمير - مقرن بن عبد العزيز، وولي ولي عهده - الأمير - محمد بن نايف، في مشهد أسر العالم معاني الوحدة، وتوطيد دعائم الحكم، والحفاظ على ما تحقق لهذا الوطن من عزة، ومنعة. فالبيعة على الطريقة الإسلامية، يحصل بها الاجتماع، والائتلاف، ويتحقق بها الأمن، والاستقرار، دون مزايدات، وشعارات فوضوية، تكلّف الأمة مشقة، وعنتا، وسفك دماء، وغير ذلك. حتى كتبت صحيفة « فاينانشيال تايمز «، في تقريرٍ لها : « إن الاحترام، والانضباط، سمة الأسرة المالكة السعودية - سواء - عند استقبال، أو توديع عضو كبير «، مشيرة في الوقت نفسه، إلى أن : « السن لها احترامها، دون الالتفات إلى المناصب، أو المواقع الحكومية «. وهو - أيضاً - ما أكدته تقارير غربية، من أن التفاهم، والتعاضد بين أفراد الأسرة المالكة في السعودية، سمة بارزة للأسرة الحاكمة.
ومع أننا نعيش في عالم يموج بالحروب، والانقلابات، والتفجير، والاغتيالات، وانفلات الأمن، إلا أن هذا البلد - ولله الحمد - ينعم بلزوم إمام المسلمين، والاجتماع معه على الحق، وترك التفرق، أو التشغيب عليه، أو نشر مثالبه، وتتبع زلاته؛ ولأن النوايا بدأت حسنة، فقد وصلنا بتوفيق الله إلى بر الأمان عبر قيادة حكيمة، يقودها خادم الحرمين الشريفين - الملك - سلمان، حين أثبتت الأسرة الحاكمة في منظر مهيب، تكاتفها، وترابطها، ووفاءها، فسطرت أروع صور التلاحم بين الشعب، وقيادته.
ستظل الشريعة الإسلامية حجر الأساس الثابت لدعائم دولة سعودية حديثة، وهو الأمر الذي يجب ألا يغيب عن البال، ولأن المسؤولية عظيمة، رغم أن إشغال منصب ولاية ولي ولي العهد، لم يواجه أي إشكاليات، أو اختلافات؛ لكن المؤكد، أنه لن يستطيع تحمّل أعباءها إلا قائد بمواصفات سلمان بن عبد العزيز. والله أسأل : أن يمده بالعون، والسداد، والتوفيق، وأن يديم على أهل هذه البلاد كل أسباب الأمن، والأمان، والسلام، إنه سميع مجيب.