سأبدأ من حيث أنهيت مقالي السابق، وهو أن رسول الله عليه أفضل الصلوات والتسليم عفا عن كعب بن زهير عندما جاءه تائباً من هجائه للنبي والإسلام، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعف عن الإرهابين الذين ساقوا أبل الصدقة وقتلوا الرعاة، ونفذ فيهم حد الحرابة، بعد أن سعوا في الأرض فساداً، كذلك في موقفه من مرتكبي المعاصي كان في غاية النبل، وظهر ذلك في قصة شارب الخمر، في رده على القائل: اللهم العنه ما أكثر مايؤتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه، فإنه يحب الله ورسوله.
فالإخلال بالأمن وقتل الناس لم يحتمل العفو من رسول الله ولا المناصحة، بينما كان العفو واحترام الناس سلوك نبوي إن ارتكبوا المعاصي أو وصلت مخالفاتهم إلى حد التهجم على الدين، و قد كان العفو سمة نبوية لأن الدين الإسلام في الأصل يتميز بالسماحة، لكن ذلك تغير مع مرور الزمن، وأنقلبت المعادلة إلى ما يخالف النهجي النبوي، لتصبح المعاصي لا رحمة فيها، بينما تخف نبرة الغضب والتحريض مع الذين يُخلون بالأمن، فلم نسمع من بعض الدعاة المطالبة بمعاقبة الذين يفجرون و يقتلون.
كان زمن التغيير في العهد العباسي، وذلك عندما أصبح صوت الحسبة الشعبية أعلى من السلطة، وذلك فيما يُعرف بفتنة الحنابلة، وذلك عندما أستغل الحنابلة نفوذهم، وكون العامة معهم، وشرعوا لقيام الحسبة الشعبية في الشوارع بأنفسهم، فصاروا يتنافسون في ملاحقة معاصي الناس ومطاردتهم في حياتهم، فإن وجدوا نبيذاً أراقوه، وإن وجدوا مغنية ضربوها، وكسروا آلات اللهو والغناء.
ووصل ذلك إلى الاعتراض على هيمنة ظاهرة الشك والتجسس على الأفراد، فإذا رأوا من يمشي مع امرأة أو صبي سألوه عن هذا الذي يمشي معه من هو؟ فإن أخبرهم وإلا ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة، وشهدوا عليه وهذه الأفعال أزعجت القادة والأمراء وكبار التجار في بغداد، فلجأوا للسلطة لوقف حركة الفتنة، ووصلت الفتنة بين الحنابلة والأشاعرة إلى ما لا يحمد عقابته، ونتج عن ذلك سفك لدماء الأبرياء، بسبب غياب الوعي واختلال موازين الفهم الصحيح للدين كما جاء في السيرة النبوية.
ما يحدث الآن هو من صلب التأثيرات المتعاقبة لحركة الحسبة الشعبية التي بدأت في الشوارع منذ أوائل الثمانينات الميلادية، وصلت تأثيراتها إلى وسائل الاتصال، وأستطيع القول إنها اقتربت أكثر من قبل في الوصول إلى مقدمات الفتنة الدينية، بعد أن تم تأسسيها على تعظيم أفعال المعاصي، وتصغير اقتراف الجرائم كالقتل على أسس دينية، ولهذا لم استغرب أن نسمع المطالبات بقتل المخالفين، والتشهير بأصحاب المعاصي، بينما تختفي تلك النبرة في مواجهة من يفجر، ويقتل الأبرياء، ويدخل ذلك في مفهوم الفتنة والتحيز للمنتسبين للمذهب، وإن وصل ذلك إلى فعل الجرائم.
قادت الحسبة الشعبية التي تقوم على ملاحقة أصحاب المعاصي إلى نشوء ثقافة شعبية تؤمن أن السلوك المتسلط هو التطبيق الحرفي للشريعة الإسلامية في المجتمع، بينما تعلمنا من الدروس النبوية أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطارد الناس في معاصيهم، وقد وصل بهم الأمر أن يعفو عمن اعتذر ممن هاجم الإسلام باللفظ، ولم ينتقم من المنافقين الذين يبطنون الكفر، بينما لم يعف عن مرتكبي الجرائم التي تخل بالأمن، وإن كانوا مسلمين.
ومن أجل أن نفهم سر التحول التاريخي في فهم الإسلام، من رسالة للبشرية والسلام للناس أجمع إلى أن تكون بمثابة السلطة الشعبية التي تفرض قبضتها على سلوك الناس وألفاظهم وتصرفاتهم، وذلك من خلال إيصالهم إلى درجة الذعر والهلع من العقاب الذي قد يصل إلى اغتيال الناس إما في شخصياتهم أو في أرواحهم، وقد كان عام 402 هجرياً يمثل درجة التحول الكبرى بعد مرور أزمنة من استمرار العنف الديني، وكان في عصر الخليفة العباسي القادر بالله، والذي استكان للخطاب المتطرف، وإصدر فيما يعرف بالوثيقة القادرية.
وقد كانت بمثابة بمثابة « فرمان « لمحاكم التفتيش القادمة، حيث تم من خلالها تكفير جميع الفرق ومطاردتهم وإيقاف الترجمة ومطاردة المفكرين، فإن رفضوا الاستجابة تتم تصفيتهم، ومن يخالف محتويات الوثيقة فاسق وكافر، ويُدرج تحت مسمى أهل البدع والزندقة، وقد أدى ذلك إلى خروج ما يطلق عليه بالإرهاب الديني والعنف العقائدي إلى درجات غير مسبوقة، وصلت تأثيراتها إلى بيت الحكمة الشهير، وليهرب العلماء وأهل الفكر من بغداد، وتصاب الدولة بالوهن والضعف، وليجتاح المغول بغداد ويُدمر بيت الحكمة بالكامل، وكانت نهاية مريرة للحقبة الذهبية في تاريخ العرب المسلمين.
ما يجري في الوقت الحالي يعيد سيناريو الأحداث في زمن القرن الرابع الهجري، فخطاب الحسبة الشعبية يقف ضد كثير من مظاهر الحضارة في المجتمع، وقد عبر عن رفضه على مختلف مراحل تطور التعليم والإعلام والعمل خلال العقود الماضية، وكان آخر تلك المواقف أنه غير راض عن برنامج الابتعاث إلي الخارج، وذلك بسبب خوفه من فقدان السيطرة على العقول، ومن دخول الثقافات الأخرى إلى المجتمع.
وربما يصلون إلى مآربهم إن استمرت مظاهر الحسبة الشعبية غير المنضبطة في التصاعد، والتي تضخم من اقتراف الصغائر للعامة، و تستخدمها في إحكام قبضتها التي قد تصل بنا إلى درجة الانهيار كما حدث لبيت الحكمة ولمظاهر العلم والحضارة في العصر العباسي بعد نجاحهم في تحويل مبادئ ومقاصد الدين الإسلامي العظيم إلى أدوات في محاكم تفتيش كبرى للعقول، قاعتها المجتمع وقضاتها أشباه الدعاة وشهودها العامة، والله على ما أقول شهيد.