لابد أنك مررت بتجربة سماع مثل يردد على مسامعك بعد تأنيب أبوي، أو استشارة أخوية، أو تحفيز اجتماعي.. يستشهد بقول مأثور في محاولة لتقريعك أو تحذيرك أو تحفيزك للقيام بشأن من شئون حياتك. فللأمثال قدر يشبه أقدار العلماء والرموز، الذين يُستحضر ذكرهم، وتثمن تجاربهم وخبراتهم، ويستدل بها في إثبات موقف أو درء آخر، نظراً لجمال لفظها وإيجاز نصها وكثافة معانيها، التي تختصر شوطاً طويلاً من الشرح وسنوات عديدة من التجربة، إذ نجد أنها تعكس مشاعر الشعوب على اختلاف طبقاتها وانتماءاتها، وتجسد أفكارها وخبراتها وعاداتها ومعتقداتها، في صورة حية ودلالة إنسانية شاملة.
ولكن.. وكما لتلك الأمثال والأقوال قدرة على استحثاث الهمم، وتنوير العقول، وتقريب المعاني، فإن لها قدرة عجيبة على تخدير الفكر، وتسطيح الرؤية، وتدمير الابتكار والإبداع والتجديد، فضلاً عن تأطير التجارب ووضعها في قالب إنساني واحد، رغم أن لكل تجربة أسبابها ودوافعها الخاصة.
وفي السطور القادمة سأذكر خمسة أمثال عربية، تداولها السعوديون واستشهدوا بها في كثير من مواقف حياتهم، مسلمين بصحتها:
1- (سبع صنايع والبخت ضايع).. وهو مثل يستدل به على وجه الطرافة «لرداءة حظ» الشخص الذي يتقن أكثر من مهارة ولكنه لا يملك وظيفة أو عملاً محدداً يستقر عليه، وقد يعود سبب إطلاق هذا المثل، على تجربة شخص فشل في مزج هذا المهارات أو توظيفها كمصدر ثابت له، ولكن في القرن الواحد والعشرين، قرن السيرة الذاتية المتطلبة، التي لا توظف إلا متعدد المهارات ومتنوع الخبرات ومتحدث اللغات، يتغير المثل ويصبح (سبع صنايع.. والبخت رائع!!).
2- (من شبّ على شيء شاب عليه)، وهو مثل كلاسيكي ممل يعشقه الآباء، لأنه يحمل لغة تهديد ووعيد ناعمة، بأن ما يقوم به الابن ويداوم على فعله سيستمر على القيام به حينما يكبر، وقد يحمل هذا المثل جانباً من الصحة، ولكن تعميمه أعمى، إذ أثبتت التجارب الإنسانية المتنوعة، أن كثيراً من البشر نشأوا في بيئات مختلفة، وانتهى بهم المطاف لاحقاً في مكان آخر لا يشبه طفولتهم ولا موضع نشأتهم، حينما تمردوا على واقعهم وصنعوا مستقبلهم، ليثبتوا أن من شب على شيء، ليس مرغماً على أن يشيب عليه!!.
3- (ما كل ما يتمناه المرء يُدركه.. تجري الرياح بما لا تشتهي السفن). البيت السابق قاله أبو الطيب المتنبي -سامحه الله-، وكان له وقع كبير في نفوس بني أمته العرب، فلا ينفك البعض عن ترديد مع كل تجربة فشل يخوضها، أو أهداف يعجز عن الوصول لها، كما تجاوز الاستشهاد به الأفراد، وطال بعض المؤسسات والمجتمعات والأحزاب، التي تجد في هذا البيت مساواة وطبطة. أما أكثر ما لفت انتباهي هو إعادة كتابة هذا البيت بعد مرور مئات السنين ليصبح:
(تجري الرياح كما تجري سفينتنا.. نحن الرياح ونحن البحر والسفن).
4- (يوم شاب ودوه الكتّاب) وهو مثل سوداوي محبط، يردده البعض تلمحياً وتندراً بفوات الأوان وانقضاء المرحلة.. رغم أننا نعيش في عالم يثبت لنا أنه طالما قلبك ينبض فلديك فرصة جديدة، وأن تصل متأخرا ً خيرا ً من أن لا تصل، وإذا كان المثل قد كتب في سياق تعليمي، فإن خيار التعلم على وجه التحديد، لم يعد محصوراً في عمر أو مرحلة معينة.. فهل كانت ستنجح «نولا أوكس» في الحصول على شهادتها الجامعية وعمرها 95 وتستلم شهادة الماجستير وهي ابنة الثامنة والتسعين؟ وتؤلف كتابها الأول حينما بلغت الـ100 ومجتمعها يردد على مسامعها، يوم شاب ودوه الكتّاب؟!.
5- (الرجال ناقل عيبه) وفي رواية أخرى «شايل عيبه»! أي أنه ببساطة لا يؤاخذ بأخطائه كما تؤاخذ النساء، وهو من أكثر الأمثال التي تعكس ثقافة «جندرية» تقدس الرجل وتمنحه صكوك المغفرة والتجاوز، بينما تكشر عن أنيابها حينما تخطأ المرأة وتخرج عن طوع المجتمع ووقار عاداته، رغم أن الله تعالى ساوى بينهم في العقوبة، سن عليهم ذات الحدود التي تسقط عن القاصر والمعتوه والمجنون، لكن يبدو أن ثقافتنا الاجتماعية لها رأي آخر.
أخيراً، أحاديثنا ومجالسنا مشبعة بأمثال مدمرة جرت مجرى المسلمات، وتداولها الناس مأخوذين بأقدميتها وقوة حضورها في الذاكرة الشعبية، ومقال واحد لا يكفي لسردها ونقدها، والأمل أن نفكر قبل طرحها والاستدلال بها، لما لها من قوة وتأثير في توجيه وتشكيل الوعي الجمعي للمجتمع، خصوصاً حينما تلامس مواضيع حساسة وملفات ساخنة.