فجع العالم أجمع بوفاة قائد الأمة، والملك العظيم الكريم، خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، الذي وافته المنية الساعة الواحدة من صباح يوم الجمعة الماضي، فببالغ الأسى نعزي أنفسنا والأسرة المالكة في فقد والدنا الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود ولا نملك إلا قول: إنا لله وإنا إليه راجعون، له الأمر من قبل ومن بعد، وبكل الكلمات والمعاني التي سبقت التاريخ والتي أتت بعده حزن الشعب السعودي على موت مليكه رحمه الله رحمة واسعة وغفر له وأدخله فسيح جناته، وسيظل رحيله من الأحداث الأكثر مأساوية على قلوبنا، ويسجل التاريخ للذاكرة الإِنسانية فقدان رجل عظيم لن ينساه الزمن والناس. لقد تولى الراحل المغفور له شؤون العالم، ولم يخذل أحداً، بل ساند الحق، ونصر المظلوم، وساعد الفقراء في جميع أنحاء المعمورة، لم يستثن أحدًا، فقد أسهم في تعميق معرفتنا بحقيقتنا، وعلّمنا كيف نحب بعضنا، ونحب أرضنا، ونحافظ على مصالحنا ووحدتنا بالرفق وليس بالقوة، حقَّق لنا مساراً نسلكه بوعي وعقلانية في علاقتنا مع العالم الخارجي. مهما سطرت الحروف، وأيا كان ما كُتب عن هذا الرجل، فإنَّ مشاعر الحزن لا توفي هذا الرجل حقه، فقد كان العقد الأخير هو عقد التنمية الكبرى، كما أنه عقد التحديات الكبرى، المملكة تقفز في عقد بشكل مذهل، في التعليم والصحة والبنية التحتية والفوقية، استثمارات عملاقة في الوطن من أجل رفاهية المواطن، هذه النقلة النوعية ما كانت لتتم لولا النظرة الثاقبة للملك الراحل، فقد كان يسعى بكل جهد لاستثمار السنوات المتبقية من عمره كي يحدث تغييراً في مفهوم علاقة الدولة بالمواطن، وقد نجح بشكل باهر في إيصال الرسالة لأبناء المملكة، فهذا الحب الكبير الذي أظهره الناس في كل مناسبة للملك لم يكن تصنعاً، بل كان نابعاً من صميم القلوب، حوالي 20 جامعة جديدة في عشر سنوات، وتوسع غير مسبوق في التعليم العالي الأهلي، ونقلة في الخدمات الصحية، مع اعتماد 6 مدن صحية جديدة، وإعادة تعريف خريطة النقل العام داخل المدن، وتقريب جغرافية المملكة مع بعضها البعض من خلال شبكة السكك الحديدية والمشروعات العملاقة في مكة المكرمة والمدينة المنورة والقائمة طويلة، خصوصاً عندما نتحدث عن المشروعات الاقتصادية الكبرى. لقد أحبه شعبه بصدق، فقد كرست الشعوب الإسلامية في شتى أقطار الأرض بالغ حبها وعظيم تقديرها حين أمر بتنفيذه من مشروعات ضخمة للحرمينلشريفين، وتوسعة لم يسبق لها مثيل للمطاف الشريف. وكذا توسعة مشعر المسعى. وبأدوار ثلاثة يؤدي الحجاج والمعتمرون والزوار مناسك الحج والعمرة، والصلاة بالمسجد النبوي الشريف، والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - وصاحبيه ـ رضوان الله عليهما ـ في تؤدة ويسر وسهولة، باختصار.
لقد كان عبد الله بن عبد العزيز ـ أسكنه الله فسيح جناته ـ حاكماً استثنائياً، قلَّد شعبه أفضل المنن، وأكرم العطايا، وواكب العصر بأفضل المنجزات التي سيخلده بها التاريخ على مر العصور والأجيال. لقد ظل خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز يخاطب شعبه بلغة تلقائية غير مقعرة، وخالية من المصطلحات السياسية، أو التورية الخطابية، فذهبت كلماته مذهب المثل، هذا الرجل النقي حد البياض، والذي حاز على كل الألقاب، لم تغيره المناصب، فظل رجلا بسيطا قريبا من شعبه يشعر بشعورهم، ويتحدث بلغتهم بعيدا عن أكاذيب السياسة وألاعيبها، فلن ينسى التاريخ لهذا الملك المخلص هذه السلسلة الهائلة من الإصلاحات العميقة في بنية الدولة والقرارات الحكيمة التي اختطها والإنجازات التي حققها في فترة زمنية قصيرة لا تقاس بعمر الدول. لقد شملت إنجازاته يرحمه الله توسعة الحرمين الشريفين بأعمال توسعة لم يسبق لها مثيل، والقيام بتوسعات كبيرة للمشاعر المقدسة في منى ومزدلفة وعرفات، وإنشاء مشروعات عديدة لتسهيل شعيرة الحج، مثل جسر الجمرات، وقطار الحرمين الشريفين السريع للربط بين المدينتين المقدستين مكة والمدينة، ناهيك عن إصدار مرسوم لإنشاء مدينة للطاقة الذرية والمتجددة، وذلك لتوفير مصادر بديلة لتوليد الطاقة، ومن إنجازاته - رحمه الله - مشروع الملك عبد الله لسقيا زمزم بكدي، وإنشاء مؤسسة الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمية للأعمال الخيرية والإِنسانية، وإصداره أمرا يقضي بحصر الفتوى على هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للبحوث والفتوى، كما دعا في المحافل الدولية لمكافحة الإرهاب ونبذ العنف، والحوار بين أتباع الأديان والثقافات.
كما لا يمكن أن يغفل أحد عن إصدار أوامره الكريمة بدعم المركز الدولي لمكافحة الإرهاب بمبلغ 100 مليون دولار، كما مُنحت المرأة في عهده حقّها الشرعي في العمل والبحث عن مصادر الرزق وفق الأحكام والضوابط الشرعية، وأيضاً أمر - يرحمه الله - بإنشاء وزارة للإسكان، واعتماد مبلغ 250 مليارًا لإنشاء 500 ألف وحدة سكنية، كما أمر بتطوير أنظمة القضاء، لتتمكن من مواءمة التطور والتنمية، وكذلك مشروع تطوير التعليم، وأمره بتأسيس مشروع النقل العام، مترو الرياض وجدة ومكة المكرمة وإنجازات أخرى كثيرة لا تتسع مساحة المقال لذكرها.
إنَّ التطورات الإيجابية التي شهدتها المملكة العربية السعودية خلال عقد من قيادة الملك عبد الله، تقاطع فيها مفهوماي الأبوي والإِنساني بشكل لافت في تحركات وقرارات القيادة السياسية، وتَلمس المواطن بشكل ملحوظ تركيز المسيرة التنموية على المستوى البشري والإِنساني، وسجلت هذه المرحلة عددا من النقاط الإصلاحية غير المسبوقة في تطور المملكة العربية السعودية، كانت ذات ارتباط وثيق بشخص المواطن وصورة الإِنسان السعودي. الجانب الفكري والثقافي كان له نصيب مبارك من توجيهات الملك عبد الله واهتمامه وحرصت على تناوله هنا؛ لكونه ذا دلالة واضحة على توجهات القيادة وحرصها على الإِنسان عبر الاهتمام بمخرجات التعليم والتربية وعبر دعم مناشط الترجمة والحوار، وهذه أمور قد يظن البعض أنها ترفيهية للمجتمع السعودي لكن الحقيقة أنها بناء للشخصية عبر الإنفاق الحكومي الذي يوجه ويتشكل بروح القائد الذي وضع أولوية معلنة للإِنسان وشؤونه على هذه الأرض. رحم الله خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود وأسكنه فسيح جناته، وألهمنا وأهله الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ووفق الله ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبد العزيز، وولي ولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز، حفظ الله مملكتنا الحبيبة، وأدام عليها الأمن والأمان، والنعمة والاستقرار، ولله الأمر من قبل ومن بعد.