كان الحديث في الجزء الأول من هذا المقال عن كشف التقصير الواضح الذي يصدر عن القسم العلمي في تواصله مع بقية الأقسام ذات التخصص المشترك في الجامعات الأخرى، وبيان الآثار الإيجابية التي ستعود عليه وعلى العملية التعليمية بالنفع والفائدة فيما لو وعى المسؤولون فيه قيمة هذا التواصل، واهتموا بتفعيله.
ولكي لا يبقى الحديث في إطاره النظري فقد وعدتُ أن يكون الحديث في هذا الجزء عن الآليات والطرق التي يمكن من خلالها تفعيل هذا التواصل، وبناء الجسور العلمية بين القسم أو الكلية وبين مثيلاتها في المؤسسات التعليمية الأخرى، حتى يمكن الوصول إلى عمليات واسعة من التطور والتطوير، وتحقيق أعلى معايير الجودة والإتقان فيما تقدمه هذا الأقسام في خدمة المجتمع، وتفعيل إسهامها في العملية التعليمية في هذا الوطن الغالي.
إنَّ أول ما يمكن ذكره في هذا السياق هو المبادرة في إنشاء (قاعدة بيانات) تضم جميع أعضاء هيئة التدريس ومن في حكمهم في التخصص العلمي للقسم المقصود، ولا أظن أنَّ مثل إنشاء مثل هذه القاعدة بالأمر الصعب، مع وجود وسائل التقنية الحديثة، فكل ما على القسم هو أن يرسل معلومات أعضائه كافة إلى جهة موحدة تتولى الترتيب مع بقية الأقسام المشابهة، وتقوم بترتيب هذه المعلومات وتنسيقها وإخراجها في عمل واحد يضم جميع المتخصصين في العلم، ويشمل المعلومات الخاصة بهم كافة من وسائل تواصل أو عناوين رسائل أو سير ذاتية أو غيرها من الأمور الضرورية التي ترى الجهة الجامعة إدراجها في هذه القاعدة، وهذا الأمر مبني على افتراض أنَّ القسم العلمي لديه قاعدة معلومات كاملة لأعضائه المنتسبين إليه، خاضعة للمتابعة والتحديث المستمر.
إنَّ إنشاء هذه القاعدة يوفر مسرداً مرجعياً لسير هؤلاء المتخصصين، ويكشف عن إسهاماتهم المعرفية في التخصص الذي ينتسبون إليه، ثم إنه يسهل التواصل فيما بينهم ويساعدهم على تبادل الآراء والأفكار والمقترحات والإفادة من بعضهم البعض، كما يُسهِّل على الأفراد وعلى مؤسسات الدولة المختلفة من الوصول إليهم بسهولة حين تحتاج إليهم، كما تسهم هذه القاعدة في توفير أدلة اختصاصية تفيد المؤسسات والجهات المعنية لتقييم أنشطة هذا التخصص في المملكة ومدى الحاجة إليه أو الاكتفاء منه، كما تفيد هذه القاعدة في ضم النتاج المعرفي في التخصص العلمي حتى يمكن تفادي التكرار وضياع الجهود، وكل هذا لا يمكن أن يتحقق إلا حين تعي الأقسام العلمية ضرورة التواصل فيما بينها، وتقوم بتفعيله بكل حرص وجد ومتابعة.
ومن الآليات التي يمكن أن تفيد في تفعيل التواصل بين الأقسام العلمية السعي إلى إنشاء (جمعية علمية متخصصة) في كل فرع من فروع التخصص الذي يندرج القسم العلمي تحته، ومع أنَّ بعض هذه الجمعيات موجودة لكنها تفتقد إلى أمور كثيرة، أولها: دقة التخصص، حيث يُلحظ على هذه الجمعيات العمومية، وهذا لا يواكب الانفتاح المعرفي للتخصص، وتعدد العلوم والمعارف وتطورها. الثاني: قلة إنتاجها وضعف عملها ومحدودية انتشارها، فكم من متخصص لا يعرف شيئا عن جمعية بنفس تخصصه، وكم من جمعية مضى على إنشائها سنوات عدة وظل وجودها مثل عدمها.
إن السعي إلى إنشاء هذه الجمعيات والحرص على وجودها بقوة يمكن أن يسهم في كثير من الفوائد التي من شأنها دعم الإطار المعرفي للتخصص من خلال توليد عدد من الآليات التي تسهل وتقوي هذا الدعم، مثل عقد الندوات والدورات التدريبية والمؤتمرات العلمية، ولا شك أن مثل هذه الملتقيات تفيد في لقاء المتخصصين والتشاور فيما بينهم حول البحوث والآراء والأفكار التي تتصل بتخصص الأقسام العلمية، سواء تلك القديمة التي تحتاج إلى مراجعة، أو تلك الطارئة التي تحتاج إلى فحص واختبار لمدى فائدتها في تطوير التخصص والنهوض به.
وإذا وُجدت هذه الجمعيات التي يفترض أن تكون ثمرة من ثمار التواصل بين الأقسام، وبالقوة والوعي الذي يتوقع لها، فإنها ستسهم أيضاً في إنشاء مكتبات عامة، تحمل على رفوفها أحدث الكتب وأهم المؤلفات والدوريات في مجال التخصص، وهذا بلا ريب ينعكس بصورة إيجابية على الباحثين الذين سيجدون بغيتهم بشكل أوضح وأدق وأسرع في هذه المكتبات، ثم لا تنس الدور المهم الذي يمكن أن تضطلع به هذه الجمعيات في الإسهام في تكوين موقف واضح ومحدد ورأي واحد ومسدد تجاه أي قضية قديمة أو معاصرة تتصل بالتخصص، والسعي إلى إعلان ذلك للجميع.