لا أبالغ إذا قلت إن مقال اليوم من أصعب المقالات التي كتبتها.
فإذا كان على عاتقي وفي عنقي ككاتبة رأي أن أكتب في هذا المقال كتابة تحليلية استشرافية لهذه اللحظة المفصلية من تاريخ المملكة العربية السعودية بين وداع الملك عبدالله بن عبدالعزيز وبين استقبال الملك سلمان، فإنني في نفس الوقت أكتب وجرح الحزن مفتوح في قلوب أكثرية من المجتمع السعودي، بمؤشر تويتر وكل وسائل الاتصال الأخرى،
على فراق إنسان دخل الحياة كما ندخلها جميعا محفوفين بالأمل، وخرج منها كما لا يخرج منها إلا قلة من المحظوظين والمجتهدين محفوفاً بحب شعب ووطن.
كما أنني إذا كنت ممن يعزفون عادة عن قراءة الصحف في أوقات ذروة المناسبات الأليمة والمفرحة معا لأنه في مثل هذه الأوقات نادرا ما نصادف كتابة موضوعية غير تكرار التفجع أو التهليل، فإنني لست ممن يستطيعون قلب الصفحة أو تغيير الموجة حسب مؤشر الأخبار، دون أن ألمس الترابط بين الصفحة السابقة والصفحة اللاحقة في أي كتاب جدير بالقراءة.
قائد الحساسية السياسية
صورعديدة متلاحقة مرت أمامي للقائد الذي أتى متأخراً ورحل مبكراً، بتعبير أحمد عدنان في مقال استباقي و استقرائي مميز، إلا أن أياً من تلك الصور لم تكن تمثل الفروسية بمعناها التقليدي، ولا بمعناها المطلق، بل كانت تشتق لها معاني أشد بساطة وعمقاً تنبع من طبيعة تجربة الرجل من ناحية، ومن طبيعة المرحلة التي جاء فيها من ناحية أخرى. وهي فروسية إنسانية بضعفها وقوتها وباحتمالات الخطأ والصواب، وليست فروسية بالمعنى المطلق أو المعنى الأسطوري؛ فالملك عبدالله - يرحمه الله - كان يبدو رجل الجدل لا رجل البتر، ورجل المرونة لارجل التعسف ورجل الحساسية السياسية إذا صح التعبير لا رجل الجمود أو التحجر. وربما كان لتجربته في بعدها الذاتي سواء التكويني لشخصه أو الاجتماعي لموقعه الأسري تأثير عميق على مده بملكات إنسانية تكون عادة شرطاً أساسياً لتمكين قائد من الحصول على حظوة حب الشعب وثقته.
صور رمزية مع القوى الوطنية
ومن أبرز تلك الصور صورته في الأحياء الفقيرة, صورته في مناطق الاطراف، صورته مع أطفال شهداء الواجب، صورته مع مختلف مشارب العلم الشرعي ومختلف أطياف الفكر في عدد من لقاءات الحوار الوطني، صورته وسط الشباب وصورته مع بنات ونساء الوطن. ولربما هذه الصور تعبر عن عينة الأعمال القيادية المتميزة التي بادر إليها فعملت على زرع القبول والحب له في نفوس الناس. بما جعل رحيله فاجعة وطنية لأن أحلامهم فيه كانت لاتزال في ريعان الشباب، وبما يرفع سقف التوقعات من العهد القادم ويزيد من تحدي القيادة الجديدة.
مشروع الملك عبدالله للإصلاح
والحقيقة أن كل صورة من تلك الصور ترمز وقتها إلى طموح الملك عبدالله طيب الله ثراه في إخراج بلاده من مأزق الانغلاق الذي قادتنا إليه بأيدينا مرحلة الصحوة ولمواجهة مأزق تهمة الإرهاب الدولية الموجهة بشراسة للمملكة بعد 11 سبتمبر 2001م.
وقد جاءت محاولة ذلك في حينه بالالتفات لدور القوى الاجتماعية بما فيها القوى الناعمة والمهمشة الشباب والنساء و»المثقفون» مع الاعتراف بتعددها وبحقها في الاختلاف. وبدا واضحا في حينه بعد غياب طويل لهذا المفهوم، أنه ما لم تشارك القوى الاجتماعية في الحل فإنها ستكون هي المشكلة. وهذا ما حاول ترجمته رحمه الله بما عرف في بداية عهده بمشروع الملك عبدالله للإصلاح في عدد من المجالات التي تعرفت على نجاحاتها وإخفاقاتها أو مدها وجزرها عن قرب من خلال بحث اجتماعي ميداني مكثف قمتُ به مع فريق عمل من الباحثات عام 2011م. وقد كانت نتائج ذلك البحث مثارة لتأمل الفجوة بين الطموح وبين الواقع.
الحفاظ على المكتسبات وتطويرها
في نفس الوقت يظل ما تحقق وما لم يتحقق من مشروع الملك عبدالله للإصلاح تجربة مهمة جداً، جديرة بإلهام العهد الجديد لبلورة وتعميق تجربة الإصلاح. فلا حاجة لإعادة اختراع العجلة، بل تطويرها بما يخلق لحمة جدلية بين مراحل حركة تاريخ الدولة السعودية قادرة على توظيف الخبرات الإيجابية لعهد سابق، خاصة إذا كان عهداً مفعماً بالطموح الوطني كعهد الملك عبدالله وذلك لأمرين: الأمر الأول هو للأمل الوطني في القيادة الجديدة للانطلاق مما تقدم واستكماله والتقدم عليه. أما الأمر الثاني فيكون لتمكين الخطاب السياسي من استيعاب تحدي التحولات والاستجابة لمستجدات استحقاقاته من الإصلاح والتجديد.
وتزداد أهمية الهدفين الأول والثاني المشار إليهما أعلاه في ظل انخفاض الدخل القومي نتيجة لتسارع تدهور أسعار البترول المصدر الرئيس إن لم يكن الوحيد للإنفاق الحكومي، وكذلك في ظل التوتر السياسي والعسكري الحاد المتفاقم بالمنطقة. وهذا مما يقتضي عدم التردد أو التباطؤ في مواجهة ذلك، والتعامل باستنارة مع تنامي الحاجة لتكوين رؤية سياسية واضحة بمشاركة هذا الزخم من القوى الشبابية بالمجتمع.