كنت أتمنى لو أن حادثة شارلي ابيدو تقتصر على اللونين الأسود والأبيض الواضحين وليست بتلك الطبقات من العتمة بين الخيطين الأبيض والأسود ومشتقاتهما من تشابك الألوان والخيوط بما تكاد تعمى معه الأبصار وتضيع فيه بوصلة البصائر.
إذ لو أن الموقف كان أقل تعقيدا لكان بالإمكان أن نكتفي كما فعل عدد غير قليل من الكتاب ومنابر الإعلام ومواقع التواصل بإدانة الحدث كحالة من العنف والإرهاب الأرعن الغير مقبول لا إنسانيا ولا حضاريا ولا إسلاميا. واعتبار ذلك أداء للواجب الليبرالي والإنساني على الأقل. أما الواجب الديني فللبيت رب يحميه ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من تلك البؤر النارية التي يراد أن تحشر شعوبا كاملة فيها، بل أن سيرته صلى الله عليه وسلم أسوة لنا في التعامل الإستراتيجي والتكتيكي مع مواقف مشابهة لا تقل شراسة وهي منبع إلهامي لا ينفد.
ولربما لو أن الموقف أقل ضبابية لكان علينا بالإضافة للإدانة كما سارع رهط آخر من الكتاب أن نبدي أسفنا على عدم فهم المجتمعات التكنوقراطية والعسكرية والتوقراطية المحافظة مثلنا ومفرخاتها الإرهابية لموقع حرية التعبير في تكوين بنية نظام الديموقراطية الغربية. مع تقديرنا العشقي الغير مناور لحيوية مسألة حرية التعبير لحياة الشعوب.
ولو أن الموقف كان أقل تركيبا لكان بالإمكان أيضا بجانب إدانة الإرهاب والعنف ودور جماعات التطرف المتأسلم فيه أن نقوم بإدانة السياسات الغربية وفوبيا الإسلام, كما نظر لها إدوارد سعيد وبوبي سييد وتشاومسكي وسواهم من كتاب الفكر النقدي الغربي والعربي, التي شحنت المنطقة بأسباب التطرف. وقد لانتورع لو كان الموقف أقل إرباكا أن نقول للغرب في وجهه هذه بضاعتكم ردت إليكم. وقد نضيف إلى ذلك السؤال المعياري المؤرق للكثير منا عن حق, وهو سؤال كيف تعتبر الإساءة للسامية ولو لفظيا من مقومات التعدي على حرمة الآخر بينما يعتبر الاعتداء على مقدسات تحتكم في قدسيتها لمنظومة حضارية تختلف عن الغرب من مقومات حرية التعبير؟!
ولربما أمكن لو أن الأمر أقل تشابكا أن نقول بأن الوعي بالمصالح الغربية في الشحن الإرهابي للمنطقة لا يعني أن نبرئ أنفسنا من ضعفنا وهواننا على الذات والآخر بما لم يجعل لنا حرمة ناهيك عن مقدساتنا التي يجري انتهاكها باسم حرية التعبير كما جرى شن حرب مفتوحة على المنطقة عام 2003 باسم حملة الأمل لتحرير العراق من ديكتاتورية صدام وأسلحة الدمار الشامل.
ولربما كان لنا أن نصارح أنفسنا بصرامة وشفافية لو أن الموقف كان أقل تشويشا بأن من نكد الحظ وكدر العيش أن نكون من الاستكانة بأن نترك أمن أوطاننا وكرامة مقدساتنا توكل لجماعات إرهابية متطرفة لتركب موجة مطلب التحرر كما حدث في سوريا, وموجة الدفاع عن المقدسات كما حدث بفرنسا ولتدعي الدفاع عنا بتلك الطريقة الانتحارية التي ليس لإنسان عاقل إلا أن يقر بضررها وانتهاكيتها لنا قبل سوانا على مستوى إنساني وسياسي وحضاري.
غير أنه في تعذر الرؤية في مثل مناخ الحدث والمناخ العربي والعالمي/الغربي المشبع بالعوادم السياسية وبالخلط التاريخي وبالجرح النرجسي وبعزة المقدس وبحلم الحرية وبتلاقي وتضارب المصالح في بيع الأسلحة وفي تدوير البترودولار في مسارات جديدة أو تجريب تكرار المسارات والسيناريوهات السابقة، وبالحرب على الإرهاب والحروب الإرهابية بأشكالها المنظمة وأشكالها العشوائية, فإننا للضرورة القصوى نحتاج لحدس واستلهام اسمه الضمير ولخمس حواس وتفكير عقلاني اسمها المصير أكثر من الحاجة للاكتفاء بتسجيل المواقف معنا أو ضدنا ومعهم أو ضدهم.
ودون أن يتنصل هذا المقال من موقف صريح، فإنه إذا كانت إدانة الحدث كفعل إرهابي في مطلقه وطبيعته أمر مؤكد فإن ذلك لا يعني غض الطرف عن مسؤولية الغرب التاريخية والحالية في تأجيج المآلات المتطرفة وبؤرها وتنظيماتها في المنطقة ولا عن فشله في استيعاب مقتضيات مرحلة ما بعد الحداثة «سياسيا» التي صارت بحكم الثورة التكنولوجية الجامحة تتطلب احتراما على قدم المساواة لاختلاف وتعدد الثقافات بما فيها الموقف من المقدسات, حيث يصبح هذا الاحترام مابعد المرحلة الكولونية مثله مثل أي من أعمدة الديموقراطية العتيدة حق من حقوق الإنسان. post -colonialism
إلا أن ذلك ليس إلا ريشة في أجنحتنا المتكسرة وفي الإشكالية التي يثيرها الحدث الآني بتعقيدات خيوطه واختلاط ألوانه هو وماقد سبقه من حوادث العنف أو ما قد يلحق به. فتلك التغريدة التي قالت بسخرية موجعة «نحن صورة من الرسوم المسيئة» لم تنجم عن فراغ ولكنها على حسها الساخر وقسوته الضارية، تضع أيدينا على جرحنا إلى ما فوق رمانة الكتف. والسؤال الذي ليس سؤالا ختاميا هو ما سبب تراخينا في مسؤوليتنا السياسية والاجتماعية والثقافية عن خلق خطاب مقنع وعملي يتسم بالمرونة والمبدأية والاعتدال يكون بديلا لخطاب العنف والإرهاب على المستوى الداخلي والخارجي بما يستطيع أن ينتشلنا بأيدينا من حالة المهانة والضعف والخضوع في العلاقة بالذات وبالآخر. وهذا أحد الضمانات الضرورية المنشودة لتغيير ما بأنفسنا ولئلا تبدو العمليات الإرهابية على بشاعتها وكأنها رد اعتبار فيما هي في حقيقتها تعميق للانحدار لاسمح الله.
وفي الختام أعتذر لنفسي وللقراء عن هذه المحاولة البائسة للفهم ولتحليل الموقف في إشكالياته المركبة بغير الأدوات المعتادة في جلد أو تضخيم الذات وفي مجاملة أو مهاجمة الآخر.