قد يكون التوتر الذي عمَّ قصة حياته بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية وسقوط النازية.. ومن ثم إدانتها رسمياً بمنظمة إرهابية هو أعظم وأشد من التوتر الذي عانى منه يوم أن انْجرَّ وراء شعارات الايدولوجيا النازية.. وانزلق طواعية ضمن فرقة الوحدات النازية التي كانت بمثابة الحرس الخاص الذي يتولى حماية هتلر وكبار ضباط حزبه. سلسلة سردٍ كابوسي من الانطباعات الذهنية وسيرة حياة اختلط فيها الواقع بالخيال فكانت الحقيقة الصادمة لجمهور عريض..
لطالما اعتبره روائياً وكاتباً عظيماً.. ولطالما كان مروجاً لمقولة «الأديب ضمير الشعب النابض» إنها صدمة الاعتراف بلبِّ الحقيقة يوم أن قشر البصل في روايته تقشير البصل، تقشير البصل سيرة ساحرة لاسعة لحياة أشهر أدباء ألمانيا (جونتر جراس) الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1999م.. في تقشير البصل كانت غلبةُ تأنيب الضمير تتأجج عند ناطق لم يستطع أن يخفي ماضيه.. لم يستطع أن يصمت أكثر ولم يستطع أن يمنع شدة حرارة تقشير البصل من إسالة دمع عينيه وهو يروي ماضٍ دامٍ يدور في مخيلته وكأنه موكب من صور خيالية وقصص خجولة تقدم نفسها وكأنها ترجو الصفح والغفران من وطنه وجمهور قرائه الذي أدمن بشغف على قراءة رواياته في تقشير البصل يسرد (جونتر جراس) فصول أحداث مؤلمة ومؤثرة مرت في حياته.. لكنه أبقاها طي الكتمان تحت قشر البصل لما يزيد عن خمسين عاماً شعوراً منه بالعار الذي قد يلاحقه إن هو أباح بها.. لكن الشعور بالذنب يتراكم فوقه مزيدٌ من الذنب فإلى متى سيظل يجلد نفسه.. فإذا كانت الحقيقة غالباً ما تكون مرة فإن إخفاءها أكثر مرارة وأشد وجعاً.. لهذا جاء مجاز البصل في عنوان سيرته الذاتية ذا دلالة فالسرد كما تقشير البصل للوصول إلى اللب.. وجونتر جراس في رواية تقشير البصل اعترف بخدمته في الجيش النازي وأنه كان ضمن من دافعوا عنه.. كانت فصول الرواية تصور تجربة الفترة الحارقة التي مرَّ بها أثناء الحرب ومشاهدته لأجساد الجنود الألمان وهي تتدلى من جذوع الشجر وقد أعدمهم الضباط وعلقوا على جثثهم رقعاً كرتونية تصفهم بالجبناء والمخربين.. في تقشير البصل يشعر القارئ وكأن (جونتر جراس) يكتب فصول مسرحية خيالية وليست واقعاً كان هو أحد رموزها .. فنجده يتنقل في رواية الأحداث بصيغة المتكلم حيناً إلى صيغة الغائب أحيانا أخرى.. يرتاب ويشك في نفسه إن كان ما رآه حقيقة أم أن الخيال صورها له بتلك البشاعة وذلك من خلال كشفه للحقائق الكريهة حول الحقبة النازية.. وكيف كانت فترات الرعب التي عاشها وهو يراقب رفاقه من جنود الحزب النازي يتساقطون جثثاً مرتعشة أمام المدفعية الروسية.. يراقب وحشية المشاهد من خلال قبو لأحد مباني ألمانيا الشرقية بعد هروبه والاختباء داخل القبو.
تقشير البصل سرد لتجارب مريرة كُتبت بحرفية عالية وتفاصيل آسرة إلا أنها لاقت جدلاً مثيراً ونقداً واسعاً لشخص جونتر جراس ذاته لإخفائه الحقيقة لنصف قرن من الزمن.. لكنه استطاع أن يتجاوز ذلك بجرأة وشجاعة عندما حسم أمراً أثقل كاهله سنوات طويلة فقشر البصل للوصول إلى لبِّ الحقيقة في روايته الرائعة.. تقشير البصل.