وما الدهر إلا من رواةِ قصائدي
إذا قلتُ شعراً أصبح الدهرُ منشدا
شاعرٌ أراق الكثير من حبر النقاد وما زال عصياً على الحكم الفصل.. وما برحت قصائده تثير حفيظة قرائه ومحبي شعره على اختلاف هوياتهم وأهوائهم وأجيالهم إنه شاعر الأنا المتضخمة المتعاظمة في أسطورة شعره (المتنبي) مالئ الدنيا وشاغل الناس.
ولد أبو الطيب المتنبي في الكوفة وبقي فيها سنين حياته الأولى يتردد على الوراقين يجمع العلم من أوراقهم إلى أن انتقل إلى بلاد الشام ويبدو أن النزعة الاستعراضية التي كرست تعاظم الذات عند المتنبي تجاوزت المستحيل إذ لم يمض وقت طويل لوجوده في بلاد الشام حتى كان مقره خلف قضبان السجن بسبب تورطه في قصة النبوة ثم تمت استتابته وأطلق سراحه.
لقد شكلت العوامل النفسية والتحولات الاجتماعية والإنسانية وظروف الفقر التي عاناها المتنبي في سنين حياته الأولى عنصراً مهماً في توهج الأنا المتعالية في أشعاره حتى بلغت جرأته أوجها عندما سمح لنفسه بأن يقول:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صممُ
إنها الأنا النرجسية التي حلم بها المتنبي وتخبط في سرابها.. شَغفٌ بامتداح الذات وشَغفٌ بامتداح الذات في مرآة الآخر.. وشَغفٌ بامتداح الآخر في ذاته هو.. إلا أن تخوم الأنا المتوهجة عند المتنبي لا تخلو من بعض الانكسارات تمثلت في شغفِ الانتهازية لمدح الآخر نزوعاً إلى عطاء ما، لذا وظف بعض أشعاره لتحقيق الثراء والمجد.. فجاءت قصائده صدى للذات التي اجتمعت على تشكيلها العوامل سابقة الذكر فإذا كان الأدب مرآة للحياة السياسية والاجتماعية.. فإن أدب الحقبة التي عاش فيها المتنبي يمثل نفوس أدبائها تمثيلاً صحيحاً.. فقد اجتاحت العواصف الهوجاء نفوسهم.. وتنافس الشعراء على اللحاق بالبلاطات وقصور السلاطين مادحين ممجدين وإن كان زوراً وبهتانا. وفي عصر تلظى فيه المتنافسون أدرك المتنبي تميزه وتفرده مما دفعه إلى تعظيم الذات والتعالي على الآخرين.. وامتزجت الأنا المتوهجة تعاظماً بفخر الذات والأصل والفصل.. فالمتنبي الذي يراه شعراء زمانه بالشاعر النرجسي المريض بحب ذاته يتجاوز منزلته عند ما يكسر التابو الاجتماعي ويستهل قصائد مدح سلاطين وأمراء القصور بالفخر والاعتزاز بنفسه.. وتمجيد الأنا المغالية المتمردة والحالمة بإمارة أو ولاية.. الأنا الشاعرة المتغطرسة جعلت من شعره شعراً ومن شعر خصومه هذاءات لا جدوى منها.. فنراه يُعلي من صوت الأنا وسط بحر متلاطم من المنافسين يفخر بنفسه مستعلياً على الجميع.
أنامُ ملئى جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
شعر المتنبي مرايا مصقولة تعكس تجليات الذات ومكابدتها في آنٍ واحد.. إن الأنا الشاعرة وإبداعها أشبه ما تكون بيوميات لم يشأ الزمن ومتطلباته أن يسحق كينونتها الشغوفة بالكلمة التي كانت ملاذاً أبى شاعرُها التأقلم مع معاناتها. المتنبي شاعر استطاع أن يخترق جدار الزمن.. وأن يتخطى القرون المتتالية فارضاً نفسه ومرسخاً شاعريته التي لم تتأثر بما تعرضت له من حملات الأعداء لتبقى «أنا» المتنبي سراً من أسرار العبقرية الشعرية.