يستفزنا الغرب المتحضر حين يقلب المعايير رأساً على عقب إذا كانت الأمور على غير هواه.. يدعو مثلاً لحرية التعبير إذا ما صدر الرأي من أحد الغربيين أو مجموعة منهم، وحتى لو كان فيما صدر من تعبير استفزاز للأمم الأخرى ويحوي بذاءات وإسفاف واستخفاف.. لو جاء هذا التعبير أو أقل منه بكثير من العرب أو المسلمين ستثور ثائرة الغربيين ليتهمونا بالتخلف وقلة الحياء والوقاحة.
كون مجموعة من الرسامين الغربيين يتعرضون ومن سنوات لشخصية الرسول الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- فهذا في نظرهم نوع من أنواع التعبير عن الرأي ويجب أن تتاح لهم الحرية الكاملة ليعبروا عن رأيهم رغم ما تحمله تلك الرسوم من تعديات سافرة على شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام وصلت إلى حد رسم صور عارية تعبر عن قمة الانحطاط الأخلاقي لدى هؤلاء الرسامين سواء في الدانمرك أو فرنسا. في المقابل لن تجد الحديث عن حرية التعبير بهذه الصورة لو رسم عربي أو مسلم صورة أو مجموعة صور لرموز غربية وبصور فاضحة. سيعتبرون ما حدث جريمة وتعدياً سافراً يستدعي التدخل السريع ومعاقبة الجاني أو الجناة، وقد يصل الأمر للمطالبة بالمقاطعة الدولية لدولة الجاني أو الرفع بالأمر للمنظمات الدولية المعنية.
مازالت حرية التعبير الغربية المباحة تجاه رسول الإسلام مستمرة من سنوات، ورغم احتجاجات المسلمين إلا أن الدول التي ينتسب لها أصحاب الرسوم المسيئة ظلت على مواقفها معتبرة ما يجري يدخل في نطاق حرية الرأي والتعبير التي يفهمونها هم فقط، بينما الدول المتخلفة في نظرهم لا تفهم مبدأ حرية التعبير لأنها لا تطبقه ولأنها دول غير ديمقراطية تدعم الإرهاب.
بعد لحظات من وقوع حادثة الاعتداء على مقر مجلة «تشارلي أيبدو» في باريس، وقتل 12 شخصاً وإصابة 11 آخرين أدانت الدول والشعوب الإسلامية الجريمة معتبرة ما حدث عملاً إرهابياً مرفوضاً انطلاقاً من تعاليم الإسلام دين السلام والمحبة والتسامح، وأن أي أفعال مسيئة للدين أو رموزه العظيمة يمكن التفاهم حولها وحلها بالطرق السلمية. هذا هو منطق كل المسلمين المعتدلين برغم أن المجلة الباريسية نشرت رسومات مسيئة طيلة السنوات الماضية، وإمعاناً في التحدي والاستفزاز فقد نشرت أيضاً صوراً جديدة بعد الحادثة مباشرة مواصلة نهجها في استفزاز الشعوب والمجتمعات منذ أن بدأت في الصدور عام 1969 ثم عودتها من جديد عام 1992 بعد توقفها عام 1981 ولأكثر من عشر سنوات ففي عام 2011 أثارت الجدل إذ غطت القضية التي تناولت رسوماً مسيئة للنبي محمد ما تسبب في أطلاق النار على مكاتبها في منطقة الدائرة العشرين في باريس، وتعرض موقعها الإليكتروني للاختراق في ذات السنة. «شارلي أيبدو» المستفزة لمشاعر المسلمين مجلة أسبوعية موضوعاتها الرسوم والتقارير والمهاترات والنكات، وتتسم منشوراتها بأنها غير وقورة وغير ملتزمة ويسارية التوجه.
إذا لم تقدم تلك الدول على خطوات تحدد من خلالها منهجية التعبير عن الرأي بحدوده وأطره المتعارف عليها فأكثر ما أخشاه أن تنفلت الأمور وتتخذ هذه الأعمال المسيئة مبرراً للقيام بردود خارجة عن حسابات العقل والمنطق.