قادتني القراءة والمتابعة والرصد - حسب الاستطاعة - لما يكتب ويقال وينشر عن حادثة « شارلي إبيدو « وما تلاها من أقوال وأفعال رسمية وشعبية، موافقة أو على الضد، سالبية أو إيجابية، دينية وسياسية ومجتمعية، تصعيدية أو احتوائية، عربية إسلامية أو عالمية يهودية أونصرانية أو لادينية.. قادتني هذه المتابعة الشخصية خلال الأيام الماضية إلى العودة للتاريخ، والتأمل العميق في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يواجه سيل الاتهامات وأنواع الأكاذيب ومختلف صنوف وألوان الاستهزاء، وممن؟؟؟، من أقرب الناس إليه فضلاً عن اليهود في زمنه!!!.
لقد خوطب محمد صلى الله عليه وسلم من قبل الله عز وجل خالقه ومصطفيه بالرسالة الخالدة الخاتمة والعالِم بما يُكاد له ويقال فيه - بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام - خوطب في أواخر سورة الحجر بقول الله عز وجل: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ} ،{عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}،{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}، {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}، {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ}، {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ}، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ}، {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}.
بشريته عليه الصلاة والسلام تجعله يضيق بما يقال عنه، ويتهم به من سحر وشعر وكذب و... ولكن ربانية الرسالة، وعقلانية التصرف، ومسئولية التكوين والبناء والتبليغ توجب عليه وهو «النذير المبين» أن يفصل بين المشاعر الشخصية والواجبات الإلهية المكلف بها من الله عز وجل، وأن يتقن فن إدارة العواطف والتحكم في المواقف وضبط النفس حين يكون التجني، فالأمر الذي جاء به أكبر من ذلك وأعظم، ولذلك عليه - ونحن له تبع - عليه الصلاة والسلام:
* أن يصبر على ما يقولون.
* مع واجب الهجر الجميل لهم.
* وأن يتسلح بالمدد من الله سبحانه الذي يٌستجلب كما أخبرنا الرب سبحانه وتعالى بالتسبيح والسجود ومداومة العبادة حتى الموت.
* وألّا يُجر إلى معارك جانبية تضر بمسار التبليغ لهذا الدين العظيم.
- إن الاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم ليس جديداً في قاموس أعداء هذا الدين، بل ليس خاصا بمحمد عليه الصلاة والسلام إذ إن كتاب الله المبين يحكي لنا ماذا قيل في الله عز وجل- تعالى الله عمّا يقول الظالمون علواً كبيرا-، ويخبرنا في كثير من سوره بأقوال من كفر- من الأمم السابقة - في الأنبياء والرسل - عليهم السلام - الذين اصطفاهم الله عز وجل لهداية البشرية وإرشاد الإنسانية، وهذا يعني أن الاستهزاء حيلة العاجز وسلاح الضعيف في وجه الحق المبين عبر التاريخ الإنساني الطويل وسيظل كما كان إلى أن تقوم الساعة.
ولا يفهم من هذا الإقرار بوجود الاستهزاء البشري أن أمر الاستهزاء بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم وبما أرسل به بل بالرسل والأنبياء عليهم السلام جميعاً أمر سهل ولا تجريم عليه في الإسلام، ويكفي رادعاً في هذا الباب قول الله عز وجل: «ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين».
إن كل مسلم صادق في محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم يحزن حزناً شديداً، ويضيق صدره عند كل إساءة أو استهزاء وشتم يتعرض له خير البشرية ومعلم الإنسانية محمد عليه الصلاة والسلام، ولكن لابد أن تكون ردود أفعالنا إزاء هذا التجني الفاضح والتعدي الصارخ - الذي يُقترف من قبل أعداء الدين سواء في فرنسا أو الدنمارك أو غيرهما أفلاماً أو رسوماً، أقوالاً أو أفعالاً - على ضوء المنهج الذي رسمه الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وهو في مكة، فحالنا - في اعتقادي - من ناحية الضعف - في مقابل القوى العالمية اليوم- قد لا يختلف كثيراً عن حال الدعوة في ذلك الزمن الذي نزلت فيه آيات الحجر.
لابد أن يكون لفقه المآلات وجوده الحقيقي وأثره الفعلي في ذهنية المفتي والداعية والمربي والمحلل والمنظر والسياسي وأصحاب الرأي وصناع القرار في مثل هذه النوازل المؤلمة، كما أن على المجتهد المعاصر حسن الاختيار بين «أقل الشرين شر وخير الخيرين خير» حتى لا نضر من حيث أردنا الخير والنفع للإسلام والمسلمين. وفوق هذا وذاك لابد أن يعرف الآخر عنا نحن المنتمين لهذا الدين العظيم أوروبياً كان أو أمريكياً، شرقياً أو غربياً أن
* الفكر يواجه عندنا نحن المسلمين بالفكر الصحيح القويم المستند إلى النص، المتوافق مع العقل السليم، القائم على الحوار الحر المسئول.
* وما يخطه القلم يصحح مساره بالكتابة الواعية والناضجة.
* ولا صوت للرصاص إلا في ساحة الجهاد الشرعي المنضبط بضوابطه الدينية المعروفة والمبثوثة في كتب السلف والخلف الصالح.
فالإسلام علمنا السلام وربانا على الرحمة والتسامح. والوفاء والوئام، وإلى لقاء يتجدد بإذن الله والسلام.