الحمد لله عظيم الشأن واسع السلطان، الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين ورسول رب العالمين إلى الخلق أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان وسار على دربهم إلى يوم الدين وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين... أما بعد:
فإن الأشعث بْن قيس بْن معدي كرب الكندي صحابي أسلم في العام العاشر من الهجرة كما قال ابن الأثير، وفد الأشعث إلى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلَّم - سنة عشرة من الهجرة في وفد كندة، وكانوا ستين راكبًا فأسلموا، وقال الأشعث لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلَّم - : أنت منّا، فقال: «نحن بنو النضر بْن كنانة لا نقفوا أمنا، ولا ننتفي من أبينا»، فكان الأشعث يقول: «لا أوتى بأحد ينفي قريشًا من النضر بْن كنانة إلا جلدته». (أسد الغابة 1: 118).
وقد شهد اليرموك فأصيبت عينه، ولما تولى أبو بكر أقام في المدينة بعد أن ترك حضرموت، وشهد كثيراً من الوقائع، وقد أبلى البلاء الحسن، شأنه شأن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - لحرصهم رضي الله عنهم على الجهاد، ومعرفتهم بمكانته في نشر الدين، وأجره عند الله.
ثم كان مع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في حرب العراق وفارس، ولما آل الأمر إلى عثمان استعمله على أذربيجان. ثم لما آل الأمر إلى علي كان الأشعث معه يوم صفين على رأيه: كنده، وحضر معه وقعة النهروان وورد المدائن ثم عاد إلى الكوفة فتوفي بها سنة أربعين من الهجرة على الأرجح إثر اتفاق الحسن ومعاوية. (الأعلام للزركلي 1: 334) وكان عمره ثلاثة وستين عاما حيث ولد عام 23 قبل الهجرة.
وتوجد أخباره وسيرته في أكثر من عشرين مصدراً، حيث إن أخباره في الفتوحات الإسلامية كثيرة.
قالوا: انه توفي بعد علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأربعين ليلة ودفن بداره، وقد أورد الذهبي عن حكيم بن جابر، قال: لما توفي الأشعث بن قيس، أتاهم الحسن بن علي رضي الله عنهما، فأمرهم أن يوضئوه بالكافور وضوءا، وكانت بنته تحت الحسن. قال محمد بن سعد: مات بالكوفة، والحسن بها حين صالح معاوية، وهو الذي صلى عليه. (سير أعلام النبلاء 2: 42).
كان كثير من المؤرخين لسيرته رضي الله عنه يسمونه: معدي كرب قيس، قال الذهبي: كان أبداً أشعث الرأس.. فغلب عليه اسم الأشعث.. وفي قصة إسلامه يقول: عن الشعبي عن الأشعث قال: قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - في وفد كنده فقال لي: هل لك من ولد؟ قلت: صغير وُلد مخرجي إليك ولوددت أن لي مكانة شبع القوم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلَّم - : «لا تقل ذلك فإنَّ فيهم قرة أعين وأجراً إذا قبضوا، ولئن قلت ذلك: فأنهم لَمحببة ومحزنة ومبخلة». أخرجه أحمد 5: 211. (سير أعلا النبلاء 2: 39).
كان الأشعث أمير كندة في الجاهلية والإسلام، وكان من أكبر أمراء عليّ يوم صفين، كما كان من ذوي الرأي والذكاء والشجاعة والكرم والإقدام موصوفا بالهيبة والورع والعلم.
فعن رأيه حدّث أبو الصلت الحضرمي قال: حلنا بين أهل العراق وبين الماء، فأتانا فارس، ثم حسر، فإذا هو الأشعث بن قيس، فقال: الله الله يا معاوية في أمة محمد - صلى الله عليه وسلَّم - هبوا أنكم قتلتم أهل العراق، فمن للبعوث والذراري؟ أم هبوا أنا قتلناكم، فمن للبعوث والذراري؟ إن الله يقول: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (9) سورة الحجرات، قال معاوية: فما تريد؟ قال: خلوا بيننا وبين الماء. فقال لأبي الأعور: خل بين إخواننا وبين الماء. (سير أعلام النبلاء 1: 41).
وعن شجاعته قال قيس بن أبي حازم: دخل الأشعث على علي في شيء فتهدده بالموت، فقال بالموت تهددني ما أبالي.. وكان يحذر من الفتن.. فقيل له: خرجت من علي قال: ومن لك إمام مثل علي، كما قال لأبي بكر استبقني لحربك.
وعن كرمه قال ابن الأثير في أسد الغابة: لما زوجه أبو بكر أخته: أم فروة التي ولدت له فيما بعد محمد ابن الأشعث والد عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث المشهور في حروبه مع الحجاج بن يوسف. اخترط سيفه، ودخل سوق الإبل، فجعل لا يرى جملا، ولا ناقة إلا عرقبه، وصاح الناس: كفر الأشعث، فلما فرغ طرح سيفه، وقال: إني والله ما كفرت، ولكن زوجني هذا الرجل أخته، ولو كنا ببلادنا لكانت لنا وليمة غير هذه، يا أهل المدينة، انحروا وكلوا، ويا أصحاب الإبل، تعالوا خذوا أثمانها، فما رؤي وليمة مثلها. (1: 118) ذلك أن الكرم والشجاعة سجية فيه، أصلها الإسلام ونحتها تعاليمه، فقد ذكر الذهبي عن شريك: حدثنا أبو إسحاق قال: صليت الفجر بمسجد الأشعث فلما سلم الإمام إذا بين يدي كيس ونعل فنظرت؛ فإذا بين يدي كل رجل كيس ونعل فقلت: ما هذا؟ قالوا: قدم الأشعث الليلة. فقال: انظروا فكل من صلى الغداة في مسجدنا فاجعلوا بين يديه كيساً وحذاء.. وفي رواية حلة وحذاء (2: 42).
وعن ورعه روى الشيباني عن قيس بن محمد بن الأشعث: أن الأشعث كان عاملا لعثمان على أذربيجان، فحلف مرة على شيء، فكفر عن يمينه بخمسة عشر ألفا. كما روى الشعبي أن الأشعث كان حلف على يمين ثم قال: قبحك الله من مال! أما والله ما حلفت إلا على حق، لكنه رد على صاحبه، وكان ثلاثين ألفا. (سير أعلام النبلاء 2: 41).
وعن مكانته العلمية وتبحره: أورد الذهبي عن منصور، والأعمش: عن أبي وائل: قال لنا الأشعث: فيّ نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً} (77) سورة آل عمران
خاصمت رجلا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - فقال: ألك بينة؟ قلت: لا. قال: فيحلف؟ قلت: إذاً يحلف. فقال النبي - صلى الله عليه وسلَّم - : «من حلف على يمين فاجرة ليقتطع بها مالا، لقي الله وهو عليه غضبان» (سير أعلام النبلاء 2: 38). وقد توسع في هذا المفسرون والمحدثون: كالبخاري ومسلم وأحمد والطبراني في الكبير.
وقد جاء ابن الأثير بهذا الخبر مجملاً ومقروناً بأمر آخر ينبئ عن ورعه رضي الله عنه أن يتقدم بالصلاة وفيه من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - ، من يرى له فضلاً ومكانة في العلم، والصحبة وهذه مكانة فقهية كبيرة لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - ، وعرفان لأهل الفضل بفضلهم، وإنزال لأهل المكانة بما هم أهله، وكلهم رضي الله عنهم يدركون هذه المكانة ويتواضعون في أنفسهم، ويتأسون برسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - في أدبه الرفيع، بنفسه عملاً، ولأمته توجيهاً، فكان عملهم هذا خير منهج تتأسى به الأجيال من بعدهم، لأنهم خير تلاميذ لخير معلم.
قال ابن الأثير في أسد الغابة: وشهد الأشعث جنازة وفيها جرير بن عبد الله فقدم الأشعث جريراً وقال: إن هذا لم يرتد عن الإسلام، وأني قد ارتددت والأشعث هو الذي نزل فيه، قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً }الآية. لأنه خاصم رجلا في بئر.. فنزلت هذه الآية. (1: 118 - 119).
وقد روى الأشعث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - عدة أحاديث، لم يحددها الذهبي بل قال: له صحبة ورواية... حدث عنه الشعبي وقيس بن أبي حازم، وأبو وائل، وأرسل عنه إبراهيم النخعي. (سير أعلام النبلاء 2: 38). أما الزركلي، في الأعلام فيقول: روى له البخاري ومسلم تسعة أحاديث (1: 334) وابن الأثير في أسد الغابة يقول: روى عن النبي - صلى الله عليه وسلَّم - أحاديث وروى عنه قيس بن أبي حازم وأبو وائل وغيرهما، ثم أورد عنه حديثاً بإسناده إلى داود الطيالسي، قال حدثنا محمد بن طلحة موصولاً بالأشعث قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - : «أشكر الناس لله أشكرهم للناس»، وقد عدّه الكناني من فقهاء الصحابة، وأورد له شيئاً ينبئ عن فقهه وعلمه.
ففي البيوع روى أن ابن مسعود باع من الأشعث بيعاً فاختلفا في الثمن، فقال ابن مسعود: بعشرين وقال الأشعث بعشرة، فقال له ابن مسعود: أجعل بيني وبينك رجلاً فقال له الأشعث: أنت بيني وبينك نفسك، قال ابن مسعود: فإني أقول بما قضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - : إذا اختلف المتبايعان: فالقول ما قال رب المال، أو يترادّان البيع.. ومن هذا أخذ أبو عبيدة، بن عبد الله بن مسعود حيث روى أنه قال: يحلف البائع، فإن شاء المشتري أخذ، وإن شاء ترك. أما شريح والشافعي فقد قالا: إذا اختلف المتبايعان حلفا جميعاً، فإن حلفا أو نكلا فسخ البيع، وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر قضي بقول الذي حلف سواء كانت قائمة، أو مستهلكة ويترادان ثمن المستهلكة. أما عطاء فقال: يرد البيع إلا أن يتفقا (معجم السلف 6: 35).