مهاجرة جليلة وسيدة كبيرة بعقلها، وعزة نفسها، وقوة إرادتها ولدت سنة 27 قبل الهجرة.. وهي أكبر من أختها لأبيها عائشة أم المؤمنين بعشر سنين. وهي شقيقة عبدالله بن أبي بكر. ودعيت بذات النطاقين، لأنها أخذت نطاقها فشقته شطرين فجعلت واحداً لسفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم
والآخر عصاماً لقربته ليلة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق إلى الغار. وكان أهل الشام يعيرون ابن الزبير بذات النطاقين يوم كانوا يقاتلونه. فقالت لابنها عبدالله: عيروك! قال: نعم. قالت: فهو والله حق. وقالت أسماء لما قابلت الحجاج: وكيف تعيرون عبدالله بذات النطاقين؟! أجل قد كان لي نطاق لابد للنساء منه، ونطاق أغطي به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأسلمت أسماء قديماً بمكة بعد إسلام سبعة عشر إنساناً. وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم وآمنت به إيماناً قوياً. حسن إسلامها فمن حسن إسلامها: أن قتيلة بنت عبدالعزى قدمت على ابنتها أسماء بنت أبي بكر الصديق -وكان أبوبكر طلقها في الجاهلية- بهدايا زبيب وسمن وقرط، فأبت أن تقبل هديتها أو تدخل بيتها. فأرسلت إلى عائشة: سلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لتدخل بيتها، ولتقبل هديتها.
واحتمل أبوبكر رضي الله عنه معه ماله كله لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً، وقدره خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف فانطلق بما معه. ثم دخل جدها أبو قحافة على أسماء وقد ذهب بصره فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله كما فجعكم بنفسه. فقالت له: كلا يا أبت، إنه قد ترك لنا خيراً كثيراً، فأخذت أحجاراً فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبوها يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده.
فقالت: يا أبت ضع يدك على هذا المال. فوضع يده عليه وقال: لا بأس، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن وفي هذا بلاغ لكم. والحقيقة أن أبا بكر لم يترك لعياله شيئاً ولكنها أرادت بعملها هذا أن تسكن روع ذلك الشيخ.
وتزوجها الزبير بن العوام، وما له في الأرض مال ولا مملوك ولا أي شيء غير فرسه. فكانت تعلف فرسه، وتكفيه مؤونته، وتسوسه، وتدق النوى الناضحة وتسقيه الماء وتعجن.. وكان الزبير شديداً عليها، فأتت أباها وشكت ذلك إليه، فقال لها: يا بنية، اصبري، فإن المرأة إذا كان لها زوج صالح ثم مات عنها، فلم تزوج بعده جمع بينهما في الجنة.
وجاءت أسماء النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: ليس في بيتي شيء إلا ما أدخل عليّ الزبير، فهل عليّ جناح في أن أرضخ مما يدخل عليّ به؟ فقال: «ارضخي ما استطعت، ولا توكي فيوكى عليك». فكانت امرأة سخية النفس.
وشهدت أسماء وقعة اليرموك مع زوجها الزبير وأبلت فيها بلاءً حسناً. واتخذت خنجراً زمن سعيد ابن العاص في الفتنة فوضعتها تحت مرفقها. فقيل لها: ما تصنعين بهذا؟ قالت: إن دخل علي لصّ بعجت بطنه. وفرض عمر بن الخطاب لأسماء ألف درهم.
وروت أسماء عن النبي صلى الله عليه وسلم 58 حديثاً ( ) وفي رواية 56 حديثاً. اتفق البخاري ومسلم على أربعة عشر حديثاً. وانفرد البخاري بأربعة وانفرد مسلم بمثلها ( ). وفي رواية أخرج لأسماء من الأحاديث في الصحيحين اثنان وعشرون المتفق عليه منها ثلاثة عشر وللبخاري خمسة ولمسلم أربعة ( ).
وكانت أسماء شاعرة ثائرة ذات منطق وبيان فقالت في زوجها الزبير لما قتله عمرو بن جرموز المجاشعي بوادي السباع ( )، وهو منصرف من وقعة الجمل:
غدا ابن جرموز بفارس بهمة
يوم الهياج وكان غير مُعرِّد
يا عمرو لو نبهته لوجدته
لا طائشاً رعش الجنان ولا اليد
ثكلتك أمك إن قتلت لمسلماً
حلت عليك عقوبة المتعمد ()
وقالت وهي ترقص ولدها عبدالله بن الزبير:
أبيض كالسيف الحسام الأبريق
بين الحواري وبين الصديق
ظني به ورب ظن تحقيق
والله أهل الفضل أهل التوفيق
وقالت لما قتل ابنها عبدالله بن الزبير:
وكانت أسماء ذات جود وكرم لا تدخر شيئاً لغد، فكانت تمرض المرضة فتعتق فيها كل مملوك لها وكانت تقول لبناتها ولأهلها: أنفقوا أو أنفقن وتصدقن ولا تنتظرن الفضل فإنكن إن انتظرتن الفضل لم تفضلن شيئاً وإن تصدقن لم تجدن فقده.
وأما مضاء عزيمتها وعزة نفسها وشجاعتها تنبؤنا عنها كلماتها لابنها عبدالله لما دخل عليها وهي عمياء وقد بلغت مائة سنة وقال لها: يا أماه، ما ترين؟ قد خذلني الناس، وخذلني أهل بيتي. فقالت: لا يلعبن بك صبيان بني أمية. عش كريماً ومت كريماً والله إني لأرجو أن يكون عزائي فيك حسناً بعد أن تقدمتني أو تقدمتك فإن في نفسي منك حرجاً حتى أنظر إلى ما يصير أمرك. ثم قالت: اللهم ارحم طول ذاك النحيب والظماء في هواجر المدينة وبره بأمه. اللهم إني قد سلمت فيه لأمرك ورضيت فيه بقضائك فأثبني في عبدالله ثواب الشاكرين. فرد عنها وقال: يا أماه لا تدعي الدعاء لي قبل قتلي ولا بعده. قالت لن أدعه لله. فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق.. فخرج.
وفي رواية أن عبدالله دخل ليودعها وكان يكره أن يأتيها فتعزم عليه أن يأخذ الأمان. فدخل عليها وقد كف بصرها فسلم. فقالت من هذا؟ فقال: عبدالله فتشممته ثم قالت: يا بني مت كريماً. فقال لها: إن هذا قد أمنني (يعني الحجاج) قالت: يا بني لا ترض الدنية فإن الموت لا بد منه. قال: إني أخاف أن يُمَثَّل بي. قالت: إن الكبش إذا ذبح لم يأمن السلخ. فخرج. فقاتل حتى قتل.
وفي رواية أخرى أن عبدالله بن الزبير دخل على أمه حيث رأى من الناس ما رأى من خذلانهم إياه فقال: يا أماه خذلني الناس حتى ولدي وأهلي فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة. والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا فما رأيك؟ فقالت: أنت والله يا بني أعلم بنفسك إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له. فقد قتل عليه أصحابك ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان بني أمية. وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك. وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين؛ وكم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن. فدنا ابن الزبير فقبل رأسها وقال: هذا والله رأيي والذي قمت به داعياً إلى يومي هذا. ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن يستحل حرمه. ولكني أحببت أن أعلم رأيك فزدتيني بصيرة مع بصيرتي. فانظري يا أماه إني مقتول من يومي هذا. فلا يشتد حزنك وسلمي الأمر لله. فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ولا عملاً بفاحشة. ولم يجزه في حكم الله. ولم يغدر في أمان. ولم يتق ظلم مسلم ولا معاهد. ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به. بل أنكرته. ولم يكن شيء آثر عندي من رضى ربي. اللهم إني لا أقول هذا تزكية مني لنفسي أنت أعلم بي. ولكني أقوله تعزية لأمي لتسلو عني. ثم جاءها مودعاً وقال لها: إني لأرى أن هذا آخر يوم من الدنيا يمر بي واعلمي يا أماه إني إن قتلت فإنما أنا لحم لا يضرني ما صنع بي. قالت: صدقت يا بني أتمم عليك بصيرتك. وادن مني أودعك فدنا منها فقبلها وعانقها. ثم خرج فدفع أهل الشام دفعة منكرة وقتل منهم. ثم انكشف وأصحابه. ثم قاتل ثانية أشد قتال لم ير مثله حتى قتل.
ثم أتت أسماء الحجاج. فقالوا لها: ليس هو هاهنا. قالت: فإذا جاء فقولوا له: يأمر بهذه العظام أن تنزل وأخبروه أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن في ثقيف رجلين: كذاب, ومبير.
وقيل: إن الحجاج حلف ألا ينزله من تلك الخشبة حتى تشفع فيه أمه فبقي سنة. ثم مرت تحته أمه فقالت: أما آن لهذا أن ينزل. فيقال: إن هذا الكلام قيل للحجاج إن معناه الشفاعة فيه فأنزله.
وفي رواية أن أحد أنصار عبدالله بن الزبير دخل على عبدالملك بن مروان فسأله إنزال عبدالله بن الزبير من الخشبة. فأمر بإنزاله وكانت أسماء قبل ذلك تقول: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني بجثته. فما أتى عليها بعد ذلك جمعة حتى ماتت. ويقال لما جيء بعبدالله إلى أمه أسماء وضعته في حجرها فحاضت ودر ثديها.
وقال ابن مليكة: كنت ممن تولى غسله. فجعلنا لا نتناول عضواً إلا جاء معنا فنغسله ونضعه في أكفانه ونتناول العضو الذي يليه فنغسله فنضعه في أكفانه حتى فرغنا منه. ثم قامت أمه أسماء فصلت عليه.
وذكروا: أن الحجاج دخل على أسماء بنت أبي بكر فقال لها: إن ابنك ألحد في هذا البيت وأن الله قد أذاقه من عذاب أليم وفعل به وفعل. فقالت له: كذبت كان براً بالوالدين صواماً قواماً ولكن والله لقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيخرج من ثقيف كذابان الآخر منهما شر من الأول وهو مبير وقال الحجاج لأسماء بعد قتل عبدالله: كيف رأيتني صنعت بابنك؟ فقالت: فسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك.
وتوفيت أسماء بمكة بعد قتل ابنها عبدالله بن الزبير بليال. وكان قتله يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة 73هـ ولها مائة سنة ولم يسقط لها سن ولم ينكر لها عقل.