بت أكثر حرصا على تتبع تصريحات المهندس محمد الماضي؛ الرئيس التنفيذي لشركة سابك؛ لما فيها من عمق إستراتيجي؛ وشفافية تقود إلى تحقيق هدف «التنمية الصناعية» وفق آلية عمل دقيقة بعيدة عن التنظير. أزعم أن دبلوماسية التحفظ لم تعد من أولويات «الماضي»؛ كما كانت سابقا؛ وهذا أمر يسهم في إثراء طرحه وتسميته الأشياء بأسمائها.
الصمت والمجاملة في التعامل مع الإستراتيجيات الوطنية يقودان غالبا إلى الفشل.
ولو تتبعنا بعض إستراتيجياتنا الوطنية لوجدناها تفتقر مقومات النجاح؛ وجدية التنفيذ؛ وآلية المراجعة والتقويم؛ وشفافية النقد؛ وهذا ما تسبب في عدم تحقيقها الأهداف المنشودة.
باتت الحكومة أمام تحد كبير لتنفيذ الإستراتيجية الوطنية للصناعة التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين؛ الملك عبدالله بن عبدالعزيز؛ ألبسه الله ثوب الصحة والعافية. وبرغم أهميتها القصوى؛ والإصرار على تفعيلها؛ إلا أن حجم العمل المقدم تجاهها تنقصه الكفاءة؛ القيادة؛ والشمولية. تعدد الجهات الرسمية المعنية بتنفيذ المشروع؛ مع غياب المرجعية الموحدة؛ إضافة إلى تعقيداتها الهيكلية من المعوقات التي قد تحول دون تحقيق هدفها الرئيس. هناك أيضا إستراتيجية التنمية المتوازنة للمناطق الواعدة؛ والتي بدأ صندوق التنمية الصناعية السعودي في حشد مقومات النجاح لها من خلال الدعم المالي؛ والفكري المرتبط بالملتقيات النوعية؛ التي تقدم من خلالها الدراسات؛ والرؤى؛ وتجارب التنفيذيين وزعماء العالم الصناعي.
طرح المهندس محمد الماضي في جلسة «التنمية الصناعية في المناطق الواعدة»؛ تصور هيكلي للإستراتيجية الصناعية؛ اعتمد فيها على خبراته السابقة؛ ومعايشته فترة تحقيق حلم بناء سابك؛ وقطاع الصناعات البتروكيماوية الأساسية؛ والمدينتين الصاعيتين في الجبيل وينبع؛ حيث أشار إلى أن غياب استراتيجية واضحة لتنمية المناطق الواعدة لا يسهم في تحقيق تنمية حقيقية لتلك المناطق؛ وأن نموذج التجمعات الصناعية هو أفضل ما يمكن القيام به لتنمية المناطق.
المرجعية المركزية الموحدة؛ التي تمتلك كامل الصلاحيات؛ والمسؤولة عن تنفيذ الإستراتيجية هي القادرة على تحقيق الأهداف؛ إضافة إلى البيئة الحاضنة القادرة على توفير متطلبات النجاح الرئيسة. استشهد المهندس «الماضي» بنجاح الهيئة الملكية للجبيل وينبع حين حصلت على الاستقلالية الإدارية والمالية والمكانية ما ساعد على تحقيقها أسس الإستراتيجية الصناعية الأولى التي وضعتها الحكومة آن ذاك؛ وأسهم في نجاح سابك؛ التي مهدت لقيام قطاع صناعي متكامل تزيد استثماراته الحالية عن 600 مليار ريال سعودي.
سر نجاح مشروع مدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين؛ هو الإستقلالية عن الوزارات الحكومية التي تعتبر من معوقات إستراتيجيات التنمية الصناعية؛ إضافة إلى ارتباط الهيئة الملكية المباشر حين قيامها؛ بالقيادة التي ضمنت لها تذليل المصاعب وتحقيق المتطلبات، بإستقلالية تامة؛ وأطلقت يدها لتنفيذ الإستراتيجية الصناعية؛ فكانت الجهة الوحيدة المسؤولة عنها.
لم أستغرب مطالبة المهندس «الماضي» بالتركيز على «التجمعات الصناعية» كقاعدة لإنجاح الإستراتيجية الصناعية الوطنية؛ فهو أحد روادها. التجمعات الصناعية هي مفتاح النجاح للمناطق الواعدة؛ ولو استمرت الحكومة في استنساخ تجربة الجبيل وينبع منذ إنشائهما آن ذاك؛ لأصبح لدينا تجمعات صناعية متعددة؛ وقطاعات إنتاج متنوعة؛ تسهم في ما يزيد عن 40 في المائة من الناتج الإجمالي.
أجزم بأننا في أمس الحاجة للتجمعات الصناعية الكفؤة القادرة على تحقيق التنمية الصناعية في المناطق الواعدة؛ شريطة أن تستنسخ تجربة الهيئة الملكية للجبيل وينبع؛ بجميع جوانبها. التركيز على نوعية الصناعات المستهدفة سيختصر الزمن؛ في الوقت الذي ستدعم فيه مركزية جهة الإشراف الشامل مقومات النجاح. لذا أشدد على أهمية الاستفادة من الخبرات التي عاصرت التنمية الصناعية الأولى؛ والتي أسهمت في تحويل الحلم إلى واقع معاش؛ فهي أكثر من يستطيع تحقيق الأهداف الصناعية الطموحة؛ والقادرة على جمع شتات الإستراتيجية الصناعية الوطنية تحت مظلة واحدة تضمن لها النجاح.
ورقة العمل التي قدمها المهندس محمد الماضي في «ملتقى التنمية الصناعية في المناطق الواعدة»؛ وأطروحاته حيالها؛ يمكن أن تشكل خارطة طريق ضامنة لنجاح إستراتيجية التنمية في المناطق الواعدة؛ والإستراتيجية الصناعية بشكل عام.
أختم؛ بحديث العقل الباطن الذي نطق به لسان المهندس الماضي حين أطلق على وزارة التجارة والصناعة اسم «وزارة الصناعة والكهرباء»؛ قبل أن يصحح خطأه؛ وهو الخطأ (الصواب) كما يُقال؛ فنجاح الإستراتيجية الصناعية الأولى؛ التي كان هو جزءا منها؛ ارتبطت بوزارة الصناعة؛ التي نأمل أن نراها واقعا؛ وقد احتضنت رواد الصناعة في المملكة.