في يوم الثلاثاء السابع عشر من شهر صفر لعام 1436هـ، وفي الرحلة من الرياض إلى المدينة المنورة، عدت من جديد للقراءة والسياحة في (الإطار يكفي). وفي هذه الرحلة قررت الكتابة عنه، رغم أنني لا أعرف تحديداً متى تعلقت بحروفه وأفكاره؛ ذلك أنني منذ كنت طالباً في المرحلة المتوسطة قبل ثلاثة عقود وأنا مرتبط بالجزيرة أثناء طيرانها الجميل، ولم أتركها في وقت نزولها إلى الأرض، وبقيت متابعتي بعد عودتها للسماء، ثم ركبت في أحد مقاعدها سنين عديدة.
أنا هنا لن أتحدث عن إبراهيم التركي مدير التحرير للشؤون الثقافية في صحيفة الجزيرة ولا عن الإنسان الذي يقابلك قلبه قبل أن تصافحك يمناه. أنا هنا أكتب عن عشقي لحرفه الآسر وكلماته الجميلة.
أستأذنكم - أيها القراء الكرام - لعرض مقتطفات تعجب صاحبكم، ويتعجب من سحرها:
«لماذا نؤجل بث آرائنا ومشاعرنا تجاه رموزنا العلمية والثقافية ثم نطلقها دفعة واحدة بعد وفاتهم؟ هل ليضيفها الورثة إلى التركة؟ ومتى يستبين من نحب الحب قبل فوات الوقت، وانطفاء الدرب؟».
«ألا تحتاج الصحافة الرياضية إلى حركة تصحيحية كتلك التي تتم للحكام؟ أو ليست المسؤول الأول عن التعصب والعصبية والإثارة في أوساط الدهماء؟ تكثر الاستفهامات فتنأى الإجابات».
«هاجم طه حسين الإعلان، ورآه عدو الحرية الفردية والاجتماعية وخصم العقل والتفكير، وقبله رأى قاسم أمين أن الوطنية الحقة تعمل ولا تعلن عن نفسها. وحاول عبدالناصر أن يجعل عفاف راضي (فيروز مصر)، وسعت جيهان السادات إلى تتويج ياسين الخيام وشطب أم كلثوم. الأمثلة عديدة، والحقيقة واحدة، فاللامع غير الملمع، والتكحل غير الكحل».
«وفي الحياة لا يجتمع كل شيء لفرد ولو شاء، ولو شئنا، ونخطئ حين نصنم الرمز فنمنع عنه الهمز، ونحميه من تهمة العجز. بهذا ومثله يتيه القادر، ويصول العاثر، ونواجه واقعاً مملوءاً بالمتورمين والمتملقين والمخدوعين والمتضررين. الوهم هم».
«الوقت دائماً متماثل، والناس في مواجهته مختلفون. أنت وهو وأنا أمام 60 دقيقة في الساعة، و24 ساعة في اليوم، واثني عشر شهراً في السنة. علماء الإدارة يرون أن الإداريين الكبار يهدرون 90 % من أوقاتهم في أمور هامشية، وينفقون 10 % فقط في الإدارة الحقيقية، وهم بذلك ومع ذلك مشغولون حتى رؤوسهم، ومتعبون حتى أفئدتهم».
«كانت العرب تقول: من كثر هذره قلّ خطره. المثل عربي، والممارسة عربية، والناقد والمنتقد عربيان».
«وبالمثل، جرب تعاملين حين يضع (البشت) على عاتقه وحين يضعه عنه، وحين يركب الدرجة الأولى عبر التنفيذي وحين يزاحم بالمناكب على مؤخرة السياحية، وكذا عندما يصيف في جنيف أو على الرصيف. المظهر مشكلة حين يغرينا الهامش، ونحدق إلى الشكل ونستلذ باللهب. وننسى - في هذا التيه - المتن و المحتوى والظل. الشكل خدعة».
«قالوا إن الألماني إذا أراد معرفة حظ إنسان من العلم سأله مباشرة (ماذا تعرف)، ويحاوره الفرنسي حول مؤهلاته، والإنجليزي حول صفاته، والأمريكي عما يستطيع إنجازه. ولو سألونا لربما وسمناه بمنصبه ووجاهته وعلاقاته مع من يدخلون منزله أو يدخل منازلهم؛ لذا برزنا في تربية الزوائد وتفريغ الموائد. الثقافة بيان لا إعلان».
«يفكرون في الثلاثين، وينفذون في الأربعين، ويكررون التجربة في الخمسين والستين والتسعين، ويسرحون ويمرحون قبلها وفي أثنائها كما يشاؤون. لا نسأل: ماذا؟ ولا نتساءل: لماذا؟ والسبب أن الحديث عن هم، وهم رجال، وهؤلاء لا يعيبهم إلا جيوبهم (كما هو مثلهم الذائع)! أما هن فقلق في العشرين، وعوانس في الثلاثين، ومنتهيات الصلاحية في الأربعين، ولا معنى لشهادتها وإسهاماتها وإضافاتها وشخصيتها! آخر العناوين في صحافة الرجال: نامت وفوق رأسها شهادة الدكتوراه، أعطوني زوجاً وخذوا شهاداتي، ظل رجل ولا ظل وظيفة أو شهادة أو حتى ذات. العالم رجل».
هذه أيها القراء نماذج يسيرة لحروف لم يستطع صاحبكم أن يقرأها مرة ومرتين بل ثلاثاً وأكثر. لن أبالغ إذا قلت: ليتها تقرر على طلاب المرحلة الثانوية وطلاب الجامعات، مع أنني أعرف أن هذا صعب المنال؛ فزامر الحي لا يطرب، ولكن أقول كما يقول المديفر: انقلوا عني: أدركوا حروف إبراهيم التركي، وعلموها أولادكم.
وللأديب التركي السلام!