روى خبير النفس الاجتماعي روبرت كالديني تجربة تدعو للتأمل في كتابه «التأثير»، فقال إن مجموعة من الناس وقفوا أمام شارع راغبين في عبوره إلى الجانب الآخر، ولم يكن المكان مخصصاً للعبور، ورأوا رجلاً منهم يتركهم ويعبر أمامهم، وكان يلبس ملابس عادية، فلم يعبروا معه. لما طُبِّقَت التجربة يوماً آخر وكان الرجل هذه المرة في لباسٍ فاخر لحقوه كلهم وعبروا معه!
هذا من المبادئ التي يطبّقها البشر، اي اتّباع أناس آخرين إذا اجتمعوا على شيء ما، ورغم أنها بديهية إلا أنها ليست إجبارية، وهذه الطبيعة يمكن أن تكون خيراً أو شراً، وتكون شراً إذا قلّدنا غيرنا في السوء، كما فعل المشركون لما أتاهم الأنبياء ينهونهم عن الشرك أعظم الذنوب، ورغم أن الحق ماثلٌ أمامهم إلا أنهم اختاروا تجاهُل الحق واتباع رأي الأغلبية، كما قال تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ}، وكلمة أمّة هنا تعني الدين والملة.
هذا المبدأ أهلك أمماً كثيرة كما نرى في القرآن، وحتى في أشياء أخرى أهون من الشرك فإننا نرى دائماً الناس ممن يقلّدون غيرهم في السوء لا لشيء إلا لأنهم رأوا غيرهم يفعلونه، وكلما زاد عدد الفاعلين ظن المقلِّد أن موقفه يصير أقوى!
أين نرى مثل هذه المظاهر في مجتمعنا؟ عدة أمثلة: عندما ترمي النفايات خارج سيارتك، يراك غيرك وقد يتأثر بهذا المنظر ويتشجع أن يرمي النفايات مستقبلاً. لعل هذا الشاب رأى شخصاً يرمي كيساً أو مشروباً خارج النافذة ذات مرة وساءه هذا المنظر لكن يظل الشاب يرمي النفايات فقط في مكانها المخصص، ثم رأى شخصاً آخر يفعل نفس الشيء، ثم ثالث، ثم لما رآك أنت ترميها قال: «يبدو أن رمي النفايات في الشارع شيء مقبول في هذا البلد! سأرمي نفاياتي في الشارع من الآن فما بعد». صرت أنت القشة الأخيرة التي قصمت نظافة ورُقيّ هذا الشاب، فصار الآن يرمي الأكياس والعلب البلاستيكية والمعدنية وربما الزجاجية في الشارع، فإذا رأيتَ الشوارع متسخة مليئة بصنوف النفايات والقاذورات فاعلم أنك جزء من السبب حتى لو لم ترمِ أياً منها. قد تقول: «لكن الكثير يفعلون هذا، لماذا التزم أنا فقط؟»، والجواب أنك لست الملتزم الوحيد، بل هناك الكثير من الناس ممن يشاركونك هذا المبدأ، وكلما قلّت المظاهر السيئة (ومنها أن تؤدي أنت دورك الحضاري) قلّت الدوافع التي تحث الناس عليها.
نرى هذه السلسلة السيئة أيضاً في القيادة المتهورة، فإذا كنت تقود بشكلٍ طائش سريع تتقلب بين المسارات وبلا استخدام لإشارة الانعطاف فقد تؤثّر على غيرك ممن منعه احترامه للناس أن يفعل هذا، وبخاصة المراهقون ممن سيقودون السيارة يوماً ما، فإذا رأى هذا المنظر كثيراً فسيظن أن هذه القيادة المستفزة الوقحة شيء مقبول في مجتمعنا، ولن يشعر بأي تأنيب إذا فعل هذا، وقد تكون أنت السبب لما رآك تفعل هذا. قل نفس الشيء عن إيقاف السيارة في الشارع أو في أماكن غير مناسبة تضيق المرور على الناس. هذه أمثلة، وهناك الكثير غير ذلك. الناس يتأثرون بالناس، فاحرص أن لا يرى الناس منك إلا الرُّقي والحضارة، وهكذا ستنشرها في مجتمعك.