خلال الأسابيع الثلاثة الماضية عاشت جلسات قاعة مجلس الشورى الموقر حالة تمر بها دورتنا للمرة الأولى: مباراة حامية عند مناقشة تقرير اللجنة المختصة حول وثيقة السياسة السكانية المقدمة من مجلس الوزراء, وهي وثيقة عملت على الصيغة النهائية لتقريرها 8 وزارات ساهمت إحصائياتها ومبرراتها في ما قدمته الوثيقة النهائية من توصيات حول السياسة السكانية المقترحة. وقد تابعت ساحة الإعلام ومقالات الرأي ما دار في المجلس من نقاش واستقطاب للدعم. وكان أهم نقاط الخلاف بين الأعضاء ما تقدمت به اللجنة من محاولة لتغيير الصيغة المقدمة باستبدال عبارة «الثقافة الإنجابية» ومقترح «المباعدة بين الولادات» بمصطلح «صحة الأم والطفل» و»الحض على الرضاعة الطبيعية».
واضح أن المصطلحات في الصيغة التي أوصت اللجنة بها بعيدة عما هدفت إليه الحكومة في صيغة الوثيقة الأصل.. بل تقلب المعنى وتنحرف به إلى عرقلة تأسيس أي تنظيم للإنجاب فرديا، أسريا, أو مجتمعيا.
وبعد أن عجزت كل محاولات للتصويت عن الوصول الى قرار خيار أغلبية يتفق عليه الجانبان, بقي إجرائيا أن يرفع الأمر الى الملك ليختار.
بالنسبة لي كل خيار نتوقف لنتخذ قرارا حوله يمر بالسؤال: هل في هذا الخيار خير مستقبلي للمجتمع والوطن؟ وبالنسبة للأرقام والنسب المقدمة للإقناع من قبل كل جانب, أعرف أنه باستطاعة أي محلل إحصائي أن يختار من الأرقام ما هو صحيح ويتجاهل السياق الذي يؤطرها فيه, لتكون الحصيلة ما يريدها أن تبدو، لا ما هي في الحقيقة. هذا أمر يعلمه من يتعاملون بالإحصاءات وتحليلها وتقدير الأرقام المستقبلية. أما التقديرات فليس بالضرورة ستتحقق في المستقبل حتما, ولا أن وجهتها ستستمر.
ولعل أسعار النفط آخر مثال حي على ذلك.
ولذلك لن أتوقف عند كل رقم جاء في التقرير ليثبت استنتاجا مسبقا. ما سأتوقف عنده هو سؤال غاب جوابه في كل تقرير اللجنة: أي مجتمع نريد أن نبني؟ هل الهدف أن نكثر أعداد المواطنين كمّا أم نحسن نوعية المواطنين كيفا ؟ تنشئة وتربية وتعليما وتأهيلا؟
كم طبيبة وإخصائية اجتماعية سبق أن فاتحتني بحزن: أرجو أن تجدوا وسيلة لتصحيح معدلات الإنجاب. الأمور تزيد سوءا: الرجل يظل ينجب أطفالا بلا ترشيد أو حساب.. ثم لايستطيع أن يضمن لهم الاهتمام والغذاء والرعاية والتربية الصحيحة ويجيء بهم إلينا مرضى بشتى الأمراض والإصابات.
تتوالد الأسئلة في ذهني: تذكرت مصطلح الصحة الإنجابية؛ هل يعني زيادة مرات الإنجاب؟ أم تقليل مرات الإنجاب لضمان صحة الأم وأطفالها؟ وماذا عن صحة الأب جسديا وعاطفيا؟
كم طفلا يستوعب سكنُ المواطن البسيط لو أنجبت زوجته طفلا كل عام من سنوات إخصابها؟ كم مواطن لديه سكنٌ يضم شمل عائلته؟
أفكر في ميزانية الدولة وتقارير مؤسساتها, ويتأكد لي أنها مسألة أبعد من الرضاعة الطبيعية, والبكاء على تناقص معدلات تكاثرنا, إن صحّ ذلك. الأمر أبعد وأخطر من رغبة التفاخر بالتكاثر؛ الأعداد يضمنها تقارب ذكر وأنثى دقائق معدودة، أما إعداد مواطنين مؤهلين لتحقيق آمالهم في عيش كريم وبناء وطن فهو مسؤولية سنوات طويلة من الآباء والأمهات.. والحكومة.