كان البروفيسور فيلب تتشنر يشرح لنا نظريته وزميله داناهيو وزميلته أولين عن الفجوة المعرفية knowledge gap في الفصول الدراسية بجامعة منسوتا الأمريكية وعلاقتها بالإعلام، وكنا نقرأ عددا من الكتب والبحوث والمقالات التي كانت تناقش هذه النظرية وخاصة في حقل الإعلام،
ومن أهم إسهامات الباحثين الثلاثة الذين أجروا الكثير من التطبيقات على هذه النظرية هو التطبيقات في أوقات الصراع الاجتماعي، حيث كشفوا وفق نتائج عدة دراسات عملية أن الصراع الاجتماعي يؤدي إلى تقليص الفجوة بين الناس وتحديدا بين من يملك ومن لا يملك في المجتمع في موضوع الصراع أيا كان سياسيا أو اقتصاديا أو ثقافيا أو دينيا أو فكريا أو غير ذلك حتى رياضيا..
وحيث إن تطبيقات هذه النظرية - أو هذه الفرضية لمن يكون محافظا في تقديراته وحساباته العلمية للنتائج - لم يكن يندرج تحتها في العقود الأخيرة من القرن العشرين موضوع الإعلام الجديد وتنوعاته الوسائلية، فبات من الموجب علينا في الإعلام والاتصال - كما هي الحال في باقي التخصصات والميادين الأخرى - أن نعيد قراءة الكثير من هذه النظريات والفرضيات في خضم المستجدات الإتصالية والتقنية وخاصة في عهد الإنترنت وتطبيقات شبكات التواصل الاجتماعي وتقنيات التواصل الهاتفي. فقد عاش ولا يزال العالم بمجتمعاته وأفراده عصرا جديدا لا يمكن قياسه بمعايير عصر سبقه ولا يمكن استيعابه بأدوات قديمة ليست من أدوات الحاضر التي ألفناه حاليا..
وفكرة نظرية الفجوة المعرفية في الأساس ان أفراد المجتمع يختلفون في استيعاب المعلومات والأحداث والمتغيرات في المجتمع تبعا لمستوى التعليم، من يمتلك درجات أعلى في التعليم سيكون لدية المقدرة في إستيعاب متغيرات وجديد كل موضوع أكثر من هولاء الأقل تعليما في المجتمع، ومع الوقت تزداد هذه الفجوة ليصبح من يملك (الحالة التعليمية والاقتصادية والمجتمعية) هم الأكثر معرفة ودراية بموضوعات وشئون المجتمع. ولكن الإضافة النوعية التي أضافها فيليب تتنشر وزميلاه هو إدراج عنصر الصراع على خط هذه النظرية، ووصلوا إلى أن الصراع من شأنه أن يقرب هذه الفجوة لما يفرض من إهتمام لدى كافة شرائح المجتمع وخاصة تلك المعنية بموضوعه، مما يمكن القول إن الصراع - رغم سلبياته على المجتمع - إلا أنه يقرب من الفجوة المعرفية بين شرائح المجتمع.
وما أريد أن أشير إليه هنا أن هذه النظرية تحتاج إلى مزيد من التنقيح والتطبيق في ضوء مستجدات الإعلام والاتصال الذي زرعته التقنية وتطبيقات الإنترنت التواصلية في المجتمع. فالملاحظ ان شبكات التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت وتطبيقات الهواتف كالوات ساب وغيرها قد غذت مختلف شرائح المجتمع بمعلومات هائلة في كل الموضوعات وخاصة تلك التي تشوبها مشكلات أو خلافات أو صراعات، وهناك نسبة متابعة كبيرة لمثل هذه الموضوعات، مما يرفع من مستوى التعريف بهذه الموضوعات وزيادة الوعي بها وبكافة التفاصيل التي تحيط بها. وهنا في نظرنا أن مفهوم الفجوة المعرفية يظهر جليا في كونه يتقلص مع وجود وسائل التواصل الإجتماعي التي تلعب دورا أساسيا في نشر المعرفة وزيادة الوعي بشكل عام. وبغض النظر عن سلبية وإيجابية مثل هذا التوجه في الوعي المجتمعي في المجتمعات الإنسانية عامة وفي مجتمعاتنا العربية تحديدا والمجتمع السعودي على وجه الخصوص، إلا أن الواقع يشير إلى حتمية الوضعية الحالية وتأثيرها على المجتمع بتداعيات مختلفة.
إن الدول تنشد دائما تعليم وتربية وتوعية أفراد مجتمعاتها، وتحاول أن تخلق رأيا عاما مستنيرا وتبني المدارس وتنشئ الجامعات بهدف إيجاد مثل هذا الرأي العام الذي يعي شئون مجتمعه ويدرك قيمه ويمارس طقوسه المثالية المفترضه، ولكن تعجز الحكومات أحيانا عن الوصول إلى مثل هذه الغاية، ولكن الوضعية الجديدة التي افرزتها تقنيات الاتصال وشبكات التواصل قد أوجدت بيئة مناسبة لزيادة وعي الجمهور وتنمية معارفه وتثقيفه في مختلف المجالات العامة في المجتمع. ولربما أحد أهم النتائج الإيجابية في ذلك هو ردم الفجوة المعرفية بين من يملك (تعليما ودخلا ومكانة) وبين من لا يملك (تعليما ودخلا ومكانة)، وأصبحت الفجوة المعلوماتية / المعرفية متقاربة، لأننا نعرف تفاصيل الموضوعات وعمومياتها.. وهنا نلفت الإنتباه إلى إمكانية دراسة هذه الظاهرة علميا في مجتمعنا السعودي..