في المقال الأول تحدثت بأن تحليل أسعار النفط ليس بالأمر السطحي، فهي بحق إحدى الحالات التي تجتمع في دراستها جميع أقسام الاقتصاد وفروعه. فيدخله الاقتصاد الجزئي وما يتبعه من اقتصاديات البترول، وينظر إليه بعين الاقتصاد الكلي وما يتبعه من اقتصاديات الأسواق النقدية والمالية، ثم بمراعاة الاقتصاد السياسي حاضرة في الذهن طوال خطوات التحليل الفكري، للتأكد من عدم احتمالية منع المصالح السياسية من وقوع النتائج الاقتصادية الصحيحة، وكل نوع من هذه الأقسام تتداخل فيما بينها كما تدخلها عوامل متشابكة يؤثر بعضها في بعض، فالتسعير والأسعاروكميات الإنتاج يُنظر إليها من جانب الاقتصاد الجزئي، وهذا الجانب هو الذي تطرقت إليه في المقال الثاني، وبينت أن السعودية ليس لها حل إلا عدم تخفيض الإنتاج، لأن أي تخفيض في الإنتاج سيكون غرمه علينا وربحه لغيرنا، كما أنه من المستحيل الاتفاق على تخصيص حصص الإنتاج سواء داخل أوبك أو خارجها، وأن ما حدث من بعض نجاحات سابقة فهو بسبب طبيعة النتائج المحايدة للعبة التسعيرية.
و الاقتصاد الجزئي يسبق الكلي عند النظرة التحليلية، فنتائج التسعير والإنتاج هي التي تُستخدم كمعطيات في الاقتصاد الكلي. فبقي أن نمر سريعا على اقتصاديات البترول لنخرج بمخرجات الاقتصاد الجزئي أي معطيات السوق البترولية، فتكون هذه المخرجات هي معطيات التحليل الاقتصادي الكلي.
واقتصاديات البترول المقصودة هنا، هو ما يتعلق بالبدائل البترولية ومقدار نضوبها وكلفة إنتاجها المالية والبيئية وجدواها.
وهناك خلط كبير في بعض البحوث بين البترول الصخري والرملي وبين بترول الصخر والرمل، فهما يشتركان في الاسم وفي بعض ما يسبباه من مشاكل بيئية وكلفة عالية وامتداد في المساحات السطحية. وهذا خلط اكتشفته في بدايات قراءاتي حول النفط الصخري، حيث إنه لم يكن لي علم سابق بهذا العلم، وقد سبب لي هذا الخلط في البداية انحرافا في فرضياتي التي أريد اختبارها من قبل أن أطبق القواعد الاقتصادية عليها بعد ذلك، ولم أستطع أن أفهم وأتأكد من صحة الفهم حتى دخلت لمكتبات الجامعات العالمية عن طريق حساب أحد المبتعثين، لأتبين الحقيقة العلمية.
فالذي تدورحوله رحى اللعبة الإنتاجية هو النفط الصخري لا صخر النفط، فصخر النفط أو رمل النفط هو نفط لم يتحول بعد إلى نفط، ويحتاج لحرارة وضغط لفصل الزيت عن الصخر أو الرمل. وهو متوفر بكميات خيالية في أمريكا الا ان إنتاجيته بعيدة المنال تماما من الجدوى الاقتصادية والبيئية. ولا مقام هنا للتوسع فيه.
وأما النفط الصخري فهو موضوع اليوم وهو محور ساحة التحليل الاقتصادي والتوقعات والسياسات البترولية. والنفط الصخري والنفط الرملي هو كأي نفط سائل اللهم إنه متجمع بين صخور ضيقة ممتدة على مساحات كبيرة، والنفط الرملي كذلك لكنه متجمع ومحصور بين طبقات رملية لا صخرية. وقد كان النفط الصخري والرملي، بعيد المنال سابقا من الجدوى الاقتصادية، بسبب انصراف تكونولوجيا استخراج النفط في القرن السابق للآبار البترولية العميقة. واليوم استطاعت التكنولوجيا أن تجد طريقتين لاستخراج النفط الصخري. الطريقة الهيدرولكية بشفط النفط بالضغط وطريقة الانابيب الأفقية التي تمتد أفقيا لا عموديا كما هي حالة النفط التقليدي. هذه التكنولوجيا استطاعت أن تضاعف الانتاج الامريكي ليقارب اربعة ملايين برميل يوميا خلال ثلاث أو أربع سنوات، مع توقع استمرار هذا الاتجاه التصاعدي.
وكلفة استخراج النفط تدخل فيه عوامل بيئية، واستهلاك للطاقة واستهلاك للحقول النفطية وما يتبع ذلك من كلفة إعلامية تنافسية تؤثر على القرار الحكومي الأمريكي بالدعم بالتشريعات وعدمه. وتكفي هذه الإشارة إلى أنواع هذه الكلفة لضيق المقام، إلا أنها يجب أن تكون في الذهن لتصور الرد العقلاني من المنتج إذا أصر منتج النفط الصخري على الإنتاج في هوامش ضيقة تتردد بين الربح والخسارة في حالة انخفاض أسعار البترول عن الستين دولارا. فبعض المنتجين له اعتبارات غير الربح المجرد، كالوطنية والإعلامية وكلفة الإغلاق العالية واعتبارات تحفيز البحوث والتطوير لإنتاج النفط الصخري.
فالكلفة المباشرة التي يتحتم على المنتج العقلاني استردادها في المدى القصير والا أجبر على وقف الإنتاج، لإيقاف خسائره، تدور اليوم بين الستين والثمانين دولارا، وعموما فإن وقف الإنتاج بسبب انخفاض أسعار البترول التقليدي، لا يعني انتهاء النفط الصخري بل سينتج عن ذلك أمران اقتصاديان، أمر علمي وآخر سوقي. العلمي يتلخص في تأخر وتباطؤ عملية التطوير والبحوث في تكنولوجيا إنتاجه والتطوير في حسن استغلال الطاقة المستخرجة منه والمستهلكة في إنتاجه، مع مراعاة وسائل تخفيف أضرار استخراجه على البيئة.
والأثر الثاني، أثر سوقي، وهو تحول إنتاج النفط الصخري ليشكل سقف أسعار السوق النفطية، ولكن تفعيل هذا السقف يحتاج لتوافر عوامل اقتصادية عدة تدوركلها حول النمو العالمي ومدة توقف الانتاج.
فإقفال حقل النفط الصخري وإعادة تشغيله ليس كفتح البقالة وإغلاقها، فهناك عمالة ماهرة وأخرى متخصصة إذا ما سُرحت قد لا يمكن العثورعليها مجددا، وقد تغير تخصصها، وقد تفقد مهاراتها، بالإضافة الى عوامل المشاعر الانسانية المصاحبة للبطالة. وهناك ارتباطات رسوم تمويلية ورسوم تأجيرية وتكاليف صيانة بالإضافة الى كلفة البدء الإدارية والتعليمية الطبيعية وكلفة إعادة الروتينية المهنية. إضافة إلى كلفة السياسات الحكومية والشعبية والإعلامية، فالنفط الصخري الأمريكي تحاربه شركات النفط التقليدي الأمريكي وإن زعم بعضها بالاستثمار فيه، تحوطا أو تصنعا، فالنتيجة النهائية الفاصلة للشركة البترولية هي تعظيم الأرباح.
فالخلاصة هي: أن قرار إغلاق حقل النفط الصخري يحتاج لوقت حتى يقتنع المنتج بعدم جدوى الإنتاج، وكذلك هو قرار إعادة تشغيل حقل النفط الصخري، يحتاج لوقت يقتنع فيه المنتج بأنه لن يضطر للإغلاق مرة أخرى. ويزداد تباطؤ قرار إعادة الانتاج كلما طالت مدة الإغلاق، وهذا كله مرتبط بالنمو العالمي، فمتى تأكدت عودة النمو العالمي وتوقع استمراريته عاد النفط الصخري للأسواق مشكلا بذلك سقفا سعرية للسوق البترولية لفترة زمنية، هي في الواقع تعطي فسحة زمنية تعين النمو العالمي على تشكيل قاعدة قوية لا تؤثر عليها ارتفاع أسعار النفط. حتى إذا ما كسرت حدةُ النمو العالمي بتزايد الطلب على النفط، انكسر السقفَ السعري النفطي المشكل من النفط الصخري، وأصبح النفط الصخري حليفا للتقليدي في مواجهة ما سيخرج من بدائل طاقة حينها، وتفصيل هذا سيدخل في بعض جزئيات المقال الرابع الذي سيتناول جانب الاقتصاد الكلي العالمي.
فالنتيجة الصغرى هي: أن أسعار النفط قد تستقر لفترة أطول في حالة عودة النمو العالمي. والنتيجة الكبرى: هي أن مشكلة أسعارالنفط الاستراتيجية هي مشكلة النمو العالمي، فالإجابة عن توقعات النمو العالمي هي الإجابة الاستراتيجية عن توقعات أسعار النفط. وهذا موضوع آخر خارج عن هذه السلسلة. والمقال الرابع سيتحدث فقط عن ديناميكية تفاعل أسعار النفط مع النمو العالمي، في حالة حدوثه أو عدمه.