طُلِبتُ للقاء ولي العهد الأمير سلمان بن عبدالعزيز- حفظه الله- في مكتبه بالديوان الملكي. ومجالس الملوك ليست كمجالس غيرهم من الناس، ذلك أن الجلوس بين يدي أمير القوم شرف رفيع، وحديث ولي أمر الأمة حديث عظيم، فمتى خص بحديثه شخصاً أصبح وجوب حفظ الحديث وصونه هو الأصل والإخبار عنه هو الاستثناء، فلا يذاع منه بشيء ولا يُخبر أحد عن محتواه إلا بإذنه، تصريحاً منه أو تلميحاً.
ومقام المُلك مقام عال، وليس مقام المُلك في المملكة العربية السعودية، وهي أشرف البلاد قاطبة، وأعظم بلاد العرب،كمقام غيره من الأملاك والإمارات والزعامات. ومن رسخت في المُلك أصوله، جاءت لطائفُ إشارات كلامه، عبارات بينات. فأصبح لطيف معنى حديثه، أمراً مطاعاً وفعلاً ماضياً وواجباً مُقدماً. ولهذا عَجِلتُ فبُحت اليوم ببعض ما حدثني به ولي العهد- حفظه الله- بالأمس.
حدثني ولي عهد ملك السعودية، عن أول وزير للبترول، عبدالله الطريقي -رحمه الله- بحديث خص فيه الطريقي بالثناء والتمجيد، إلا أنه حديث يحكي في عموم مفهومه تقاليد الكرم والحلم والشهامة والمروءة والعفو التي توارثتها الأسرة الحاكمة السعودية، جيلاً بعد جيل. فلم يذكر ولي العهد الطريقي إلا بالجميل والثناء، والشكر والتقدير لإخلاصه لدولته وجهوده في بناء وطنه.
وبعد أن انتهى -حفظه الله- من ذكر الطريقي ومحامده، تحدث ولي العهد بأحاديث أخرى عامة، تطرق فيها لتاريخ هذه البلاد وما مر عليها من تحديات، شأنها شأن كل الدول. وذكر فيما ذكره من الأحداث، من توفيق الله لبلادنا، أن هدى الدولة السعودية لحسن التعامل مع فتنة القومية، وما تلبسته في بعض مبادئها بالاشتراكية، دون نسبتها لشخص بعينه.
ولكل موقف طريقة حديث تناسبه، والموقف موقف إكرام وثناء لرجل من رجالات الدولة، عبد الله الطريقي -رحمه الله-. وولي العهد ممن رسخت في سياسة المُلك أصوله، لذا فأعتقد، أن عباراته -حفظه الله- النصية المخصوصة بالثناء والكرم والعفو وذكر محامد الطريقي، مع عموم حديثه عن تاريخ التحديات التي واجهتها البلاد، يتضمن عموم مفهوم معنى حزم القيادة العليا وإدراكها لمخاطر أعداء البلاد. فعفو الدولة المخصوص عن الماضي لا يتضمن معنى رضا الدولة السعودية حاضراً ومستقبلاً عن أي شكل من أشكال اتخاذ مواقف مخالفة لسياسات الدولة الكبرى الخارجية والأمنية، ولو كانت غير مقصودة.
وكنت قد كتبت مقالين عن الطريقي -رحمه الله- في زوايتي هذه قبل شهر تقريباً، اعتذرت فيهما عنه رحمه الله، وتشفعت بإخلاصه المشهود ومواقفه الوطنية البترولية الحكيمة. وذكرت أن كرم الدولة السعودية لم يقف فقط عند تجاوزها لبعض اجتهادات الطريقي رحمه الله وعفوها عند عودته، بل إنها قد كافأته وأحسنت إليه عندما عاد للبلاد شيخاً كبيراً.
وملك البلاد هو الدولة السعودية وعمادها، وركناها ولي العهد والنائب الثاني، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. وقد كانت عودة الطريقي زمن الملك فهد رحمه الله. فلعل ذكرى الطريقي والحديث عنه، هيجت في نفس ولي العهد ذكرى حبيبه ورفيقه وأخيه الملك فهد -رحمه الله- وإن الشجى يبعث الشجى. فحدثني ولي العهد بقصة استقباله للطريقي عندما عاد للوطن. وحدثني بقصة إهداء الملك فهد الطريقي منزلاً قيمته خمسة ملايين وشيكاً بمليوني ريال، كان سمو الأمير سلمان هو المُكلف شخصياً باختيار البيت وشرائه، ثم تقديمه والهدية للطريقي. وأعتقد أن التكليف الملكي الشخصي للأمير سلمان شخصياً، هو وسام شرف للطريقي وتكريم معنوي له، فضلاً عن التكريم المادي الذي تضمنته الهدية. ولا يصل التكريم المعنوي حد الكمال إلا بإشهاره. وهذا ما قصرت عنه مقالتي ولم يحضر قلمي بديهيته.
وختم سمو ولي العهد حديثه بالتأكيد على محافظته على منهجه التطبيقي المفسر لدستور الدولة السعودية لمعنى الحرية الإعلامية، والمتمثل في طريقته -حفظه الله- على التعامل لما يُكتب من رأي وما تنشره الصحافة، فهو ينظر فيما يُكتب ويُنشر، فإن كان نقداً أو رأياً فيه حق، فسموه -حفظه الله- يأخذ به ويشكركاتبه عليه، وإن كان جانبه الصواب فقد أعطاه الفرصة ليرد عليه. فكانت إشارة كافية لي -على ما فهمت منها- تُلزمني بتوضيح ما غيبته عبارتي المُختزلة من معلومات تؤكد وتوضح كيفية إحسان الدولة السعودية للطريقي.
ومن تشرف بالجلوس بين يدي ولي العهد مُتعلماً، غدا تلميذاً نجيباً. وقد كان صدق الوفاء، ووجوب شكر أهل الفضل، وسمو أدب المعاملة والتلطف بالعبارة هو بعض مما تعلمته من شرف جلوسي بين يدي ولي عهد المملكة العربية السعودية، فما أعلى المقام وأعظم المُعلم.
فلست إذا بتلميذ نجيب، إن لم أتم مقالي مُحدثاً بما رأيته ولمسته وسمعته في ديوان ولي العهد، فقد لقيت في ديوان سموه ترحيباً راقيا وتكريماً رفيعاً وأدباً جماً ووجوها مبتسمة مريحة من كل رجل -عسكري ومدني - من رجال ديوان سموه. وبما أنني لست إلا شخصاً من عامة الناس، ولا يعرفني أحد، بل ولا أحسن حتى لبس البشت، فهذا دليل على أن ما لقيته ليس خاصاً بي، إنما هو لكل من يتشرف بدخول ديوان سموه. وهذه آداب وأعراف وتقاليد يندر وجودها عند صغار القوم، فضلاً عن استحالة تواجدها في دواوين رؤساء الدول وملوكها، ولو لم يلاقك فيها إلا صرامة وجوه رجال الأمن وعبوسها. وحسن اختيار المساعدين والمرافقين دليل على حسن تدبير السيد الكبير، فشكر الله والوطنُ رجالَ ديوان ولي العهد، فقد مثلوا ولي العهد خير تمثيل.
ومما شد انتباهي رؤية مستشار ولي العهد ورئيس ديوانه، سمو الأمير محمد بن سلمان، وهو يحمل كماً ضخماً من المستندات والمعاملات يكاد حجمها يعيقه عن المشي بها. فأين صغار القوم عن مدرسة ديوان ولي العهد. فكم من مسؤول رأيت، ومدير في الوزارات والجامعات يمشي يتهادى، وخلفه تابعان يحملان بشته وشنطته الصغيرة.
وإن كنت لم أحظ بشرف الجلوس مع رئيس الديوان إلا أنني التقيت به. فقد دخل سموه مكتب ولي العهد متزامناً بلحظة انصرافي من بين يدي ولي العهد، وكنت حينها في مأزق برتكولي رسمي فنظرت إليه بنظرة عفوية حائرة أطلب المساعدة، فقدمها سموه لي مبادلاً عفويتي بعفوية مثلها، وحيرتي بابتسامة عريضة، كانتا تحمل معاني واضحة لشخصية قد حسُنَ عقلُها وأدبها فأدركت عِظم قدرها وأهمية مكانتها، فتواضعت نفسها وحسن تدبيرها، فشكر الله له وأخذ بيده ووفقه للحكمة. ولا عجب فقد جمع الحسنيين. فهو محمد بن سلمان وتعلم ثم تخرج من مدرسة ولي العهد فهو يمارس ويطبق بنجابة وتميز علومه الفطرية والمُكتسبة.