أرسل لي كثير حلقة من برنامج خواطر الرمضاني، تحمل رسالة في التحذير من الديون. ولا شك عندي من حسن نية البرنامج ومقدمه، لكنها ثقافة شعوبنا التائهة بين تاريخ مجدها وإنكار واقعها الذي ساقها للتخبط بين حروب أيديولوجية عالمية.
ففي تلك الحلقة عرض البرنامج مقابلات كثيرة مع الأمريكيين في الشارع وفي الأسواق، مع أغنيائهم وفقرائهم، يسائلهم: ألا رجل منكم أو امرأة ليس عليه دين؟ وبالطبع لم يجد. فالجميع، الغني والفقير، مُستدين بشتى أنواع الديون.
وبعد ذلك سافر البرنامج للبلاد العربية ليصور سجونها التي امتلأت بالمفلسين الذين عجزوا عن سداد ديونهم. خاتماً البرنامج بمشهد عاطفي بسداد دين مفلس عربي؛ ليمسح بهذا المشهد العاطفي أي تساؤل ينتج من خاطرة فكر قد تمر على متفرج عربي لم يتم بعد تخدير عقله تخديراً أبدياً.
وأقل درجة من الموضوعية العلمية تستلزم من البرنامج أن يسأل الأمريكي: فيم كان دينه؟ فيسأله إن كان يملك منزلاً أم لا. أن يسأل الأمريكان لِمَ يتحملون ديوناً دراسية؟ أن يسألهم هل لديهم استثمارات طويلة الأجل؟ وكان ينبغي عليه أن يواصل البحث والتجوال في أمريكا ليزور سجونها، فيرى هل فيها من سجين واحد في دين؟ ولِمَ زار السجون العربية بدلاً من الأمريكية؟
وكان من الأجدى للبرنامج منطقياً أن يكون السؤال هو: فيِمَ تصرف راتبك أو دخلك الشهري؟ فغالب الناس، عربهم وعجمهم، يصرفون دخولهم الشهرية كلها.
فالأمريكي لا يبقى من راتبه شيء؛ لأنه يذهب أقساطاً في سداد ديون استثمارات متنوعة. فقسط لسداد ثمن البيت، وقسط للسيارة، وقسط لصندوق التوفير، وقسط للبرامج الترفيهية والتبرعية. والعربي لا يبقى من راتبه شيء كذلك، فقسط لإيجار المنزل، وأقساط أخرى للاستهلاك.
ولو حاول البرنامج استخدام أبسط الأساسيات العلمية لصنَّف المقابلات حسب أعمار الناس.
فلو فعل لوجد أن الأمريكي يشيخ وقد عظمت ملكيته واستثماراته؛ فهو ينتقل من منزل إلى منزل أكبر، ولوجده يتمتع بالإجازات والترفيه، ولوجده يمتلك أصولاً مالية قد تضخمت عبر السنين بما استثمره من الدين الذي استدانه ليساهم به في صندوق التوفير. فهو ضمان مالي له في شيخوخته، يغنيه عن أولاده وعن الناس، أو على الأقل يترك خيراً لورثته (وإن كان هذا ليس من ثقافتهم بالجملة لمنع الاتكالية والكسل).
ولوجد الفرد العربي يشيخ ولم يملك منزلاً واحداً، بل قضى عمره مستأجراً في نفس مستوى منزله الأول، مراوحاً في سباق تضخم الإيجارات. ولوجده وقد شاخت به السنون وقد تقاصرت قدرته الشرائية؛ فلا يستطيع الحياة إلا بالكفاف. ولوجد الفرد العربي لا يملك ثروة في صندوق التوفير الاستثماري، تضمن لشيخوخته ترفعاً عن فضل ومنة الغير. ولوجد العربي يموت مُتحسراً أنه لم يترك خيراً لورثته.
فالأمريكي والعربي كلاهما ينفق راتبه، بل غالب الناس في جميع المجتمعات تفعل هذا، ولكن أحدهما يستمتع بشبابه ويمتع أطفاله، وينفق وهو في نفس الوقت يستثمر ثم يموت غنياً، والآخر يعيش كفافاً ويموت فقيراً. والحديث على الأغلب الأعم.
وكان يجب على البرنامج أن يخبر عن سبب زيارة السجون العربية بدلاً من الأمريكية. فيُخبر المشاهد بأنه في أمريكا لا يُسجن مدين في دين، ما لم يقترن بعلميات تزوير واحتيال واسعة، فالجريمة على الاحتيال والتزوير لا على الإفلاس وعدم سداد الدين كما هو حال السجون العربية.
فنظرية السوق الرأسمالية التي نحاربها ثقافياً وإعلامياً وتعليمياً تنص على أن السوق الإنسانية تعكس اختلاف مواهب الناس وقدراتهم، مع الاعتراف والتعامل مع فطرة الإنسان المجبولة على حب الخير لنفسه وعلى الظلم.
فالسوق تحتوي على صاحب الثروة، وعلى المستثمر والمستهلك المسرف والمستهلك المقتصد. فمهمة النظام البنكي في السوق الرأسمالية هي: توجيه ثروات المدخرين لأفضل الاستثمارات الممكنة في المجتمع. وهذه المهمة لا تتحقق إلا بأن يتحمل البنك مخاطرة إفلاس المقترض. ولذا كانت البنوك أول المتورطين في أزمة الرهن العقاري، وليس الملاك. ولهذا يكون في حساب الشخص مئات الألوف ولا يستطيع البنك التعدي عليها باحتجاز دولار واحد بسبب قروض في البطاقات الائتمانية لم تُسدد. ولهذا لا يُسجن عندهم أحدهم في دين، ولا يتعدى بنك على ملكية أحد في دين إلا في الرهن العقاري، وفيما وقع الدين عليه، لحكمة واسعة ليس هذا محل تفصيلها. ولكنها تقوم على التعامل بحقيقة الفطرة الإنسانية التي لا تمنعه عن الظلم إلا لخوف أو عجز.
وإنما امتلأت السجون العربية بالمفلسين؛ لأن عمل البنوك العربية لا يتعدى عمل الدلال الذي يوصل بين الدائن والمدين ويأخذ عمولته، فلا يهمها ما سيُصرف الدين فيه.
فالدين التمويلي خير كله، إذا كان محكوماً بنظام شامل قائم على سُنة الله في خلقه للبشر وللسوق. نظام يحمي الغني والفقير بما يحقق أفضل الاستغلال لموارد المجتمع. والنظام التمويلي الحديث مكّن الطبقة الوسطى من الاستمتاع بالإنفاق الاستهلاكي الترفيهي، كما مكّنهم في نفس الوقت من التملك والتوفير الاستثماري. بينما يستحيل في السوق العربية الجمع بين الإنفاق والاستثمار، كما يصعب على الكثير التملك والتوفير حتى يملك رأس المال اللازم للاستثمار في ظل التضخم، فهو أبد الدهر أجير كادح.
وهنا يُطرح السؤال الأهم: هل تعمد البرنامج تضليل المشاهدين من أجل كسب رضاهم؛ وبالتالي زيادة عدد المشاهدين؟ لا أعتقد ذلك أبداً. بل هي غفلة التبعية للثقافة السائدة التي تعمي البصر، وتقلب المنطق، وتخدر الفكر. فقد ضاعت استقلالية عقول الشعوب العربية في حرب الثقافات بين الغرب والشرق.