أتاحت لي صديقتي الأمريكية فرصة الذهاب إلى دار الأوبرا في بوسطن لحضور عرض شهير للبالية هناك.. ضخامة المكان وفخامته ورسوم جدرانه وإثريته تحكي قصة الحضارة الإنسانية في أجمل تفاصيلها.. كان الكثير من الأهالي يصحبون أطفالهم لرؤية العرض الشهير وكان الحضور يملئون المكان الذي يتسع لأكثر من ألف مشاهد دفعوا جميعاً لإعطاء أبنائهم فرصة مشاهدة أحد الفنون الخلابة الخالدة..
بدأ العرض الجميل بكل أنواع الفرح الممكنة من موسيقى وأطفال وألوان وحركات، واستمر الجزء الأول أكثر من ساعة لم يتحرك خلالها طفل من مكانه ولم يتباكى أحد، وكان الصمت سائداً احتراماً للمبدعين على ساحة المسرح.. في أثناء ذلك كانت هناك مشاهد تحكي عن الحضارات الأوروبية والهندية والصينية والروسية، ولم يوجد شيء يمكن أن يكون فناً ينسب إلى الحضارة العربية أو يمثل التراث العربي بأي شكل بحيث أن غياب الفن عن حياة أمة ما هو سؤال أساسي ربما تتيح لنا أجابته التعرف على مصادر الكثير من المشكلات الشخصية والعامة التي تتلبس الإنسان العربي اليوم بعد أن حرم من التفاعل والتعامل مع نماذج الفنون المختلفة التي تساعده على التكامل وخلق التوافق في شخصيته الإنسانية.
جعلني ذلك أفكر بدول الخليج وتحديداً بالمملكة باعتبارها الدولة الأكبر حجماً وسكاناً وثقلاً سياسياً في المنطقة كما أنها تمثل محركاً اقتصادياً هاماً يحرك اقتصاديات العالم منذ اكتشاف النفط في بداية القرن العشرين.
تمكننا الفنون من التعبير بوسائط متعددة سواء عبر اللون أو الحركة أو الصوت أو الصورة من التعبير عن مشاعرنا ومخاوفنا وتوقعاتنا وآمالنا لأنفسنا والعالم من حولنا كما أنها وسائط مهمة للتعبير عن الإبداع الإنساني في أعمق صوره. هذا على المستوي الفردي لكنها أيضاً على المستوي الجماعي هامة لأنها تلعب دوراً أساسيا في حياة البشر بتعبيرها عن تجاربهم المشتركة ولآنها لغة يمكن للجميع فهمها مهما تباعدت واختلفت الثقافات التي أتوا منها.
هناك مهمة سرية للفنون قد لا نضعها في اعتبارنا لكنها مهمة وهي زرع الفرح والتفاؤل والبهجة بين الناس إذ من المهم أن تساعدك العوامل البيئية من حولك علي الشعور بالبهجة والفرح وليس التوجس والقلق الذي يؤدي إلى تفريغ طاقاتك الإبداعية في مشاحنات جانبية أو توقعات سلبية تشفط طاقاتك المنتجة والإيجابية.
ربما كنا للأسف من جيل بائس حرم من التمتع بفنون العالم وتراثه الخالد بسبب الموجة المتطرفة لكننا لا ندرك ذلك إلا حين نسافر ونجد أن الفنون في العالم الآخر موجودة في كل مكان إذ لم يعد مكانها المتاحف والمعارض الفنية والمسارح بل انتقل الفن إلى الشارع ليصل إلى الناس فتجد الفرق الموسيقية في الأسواق والحدائق والفنانون يعرضون في الأسواق العامة ويمارسون فنونهم أمام المارة وتجد المسارح تفتح أبوابها للقادرين وغير القادرين بطرق مختلفة بل إن الفن موجود مثلاً من اللحظة التي تركب فيه وسيلة مواصلات عامة فهذه قصيدة مكتوبة على جدار القطار وهذا إعلان عن معرض فني، وهذا إعلان عن تظاهرة ثقافية جادة، وهذه منحوتة مثبتة أمام المدرسة وهذا معرض فني مقام في كافتيريا الجامعة وهكذا شعور جميل يحيط بك فينشر الأمن والبهجة والتفاؤل بخير الإنسان وأمنه، ويدفعك للتأمل في ذاتك وفي ما تفكر فيه كما يفتح أبواب عقلك على أفكار لم يكن ممكنا التفكير فيها.
فقد قمت بزبارة متحف الفنون في بلدة سيلم بجانب بوسطن وأذهلتني الأفكار الجديدة غير المتوقعة، فهناك صورة كبيرة تختصر فصول السنة عبر عرض فيديو في دقيقة واحدة!.. أي في دقيقة واحدة تمكن الفنان بسلاسة من عرض فصول السنة الأربعة خريفاً وشتاء وربيعاً وصيفاً!!.. (كم استغرق الفنان لا تمام عمل كهذا؟) والآخر قام بتعليق أقلام رصاص في أوراق شجرة ووضع تحتها ورقة وترك أوراق الأشجار تتحرك بنفسها لترسم صورة بديعة خلاقة (والسؤال كيف جاءته الفكرة؟)، (الآخر: يرسم على الورقة وهي لا زالت على الشجرة ويتركها لتنشف ثم تتحول لعمل فني مبدع وغير ذلك كثير وكثير؛ هذا عدا عن ورش تجريب الألوان التي كانت مقامة للأطفال باعتبار يوم الأحد إجازة وتذكرت أطفالنا المساكين وماذا يقضون نهارهم فيه؟.
في غرف مقفلة لوحدهم ساعات طويلة منغمسون في حرب وضرب عبر ألعاب الكرتونية خطرة سيطرت على عقولهم حتى أدت إلى وفاة أحدهم قبل فترة في مدينة الرياض، وندعو الله أن يستر.. فمن يري كيف يقود مراهقونا سياراتهم اليوم ويراقب كيف يلعبون ألعابهم في الكمبيوتر يدرك التشابه الخطر.
الفنون ومنذ خلقت البشرية كانت أحد مصادر الإلهام والتفريغ الإنساني. أحوالنا المحلية مع الفنون لا تسر عدواً ولا صديقاً.. نحن متفائلون بالوزير الجديد رغم مهمته المركبة لكن إزاحة الإهمال والظلام عن الفنون دراسة وأعمالاً ومتاحف وأكاديميات للتعليم هي مهمة أساسية، وتحتاج إلى ميزانيات ضخمة تعوض الإهمال الذي تعرض له هذا القطاع خلال السنوات الثلاثين الماضية.
العالم لديه تجربة كبيرة في هذا المجال لذا لا داعي لأن نخترع العجلة كما يقولون، بل نبدأ باستخدام العجلات التي يعرفها العالم ونطوعها لاحتياجاتنا لتعويض الفراغ والخواء الكبير الذي يغلف حياتنا الثقافية. ستكون دهشتنا كبيرة بحجم الإبداعات التي ستظهر لنا من هذه الأجيال التي أتاحت لها وسائل التواصل الاجتماعي تعلم كل شيء ويكفي أنني وفي هارفرد وقبل أسابيع (وحيث لم أتوقع) قابلت فرقة سعودية مسرحية تضم شباباً وشابات سعوديين وسعوديات تقدم عروضها في جامعة هارفرد (وكنت أظنهم طلبة هناك) ودهشت أن موقعهم في جدة، وهناك فرق مماثلة تقريباً في كل أنحاء المملكة.. فقط لنسمح برفع الأغطية.