لا أحتاج أن أسال أي من القراء الأعزاء في ما إذا كان لديه واتس أب أم لا؟ ببساطة لأن الجميع لديهم واتس أب صغيرهم وكبيرهم.. ولي أن أتحدى أي أحد وسيفشل في الرهان (إذا كان سعوديا بالطبع) فمن الجنون أن تكون سعوديا ولا يكون لديك واتس أب؟
حين جئت هذا الفصل في تفرغي العلمي إلى الولايات المتحدة للعمل كأستاذ زائر توقعت (وبسذاجة أحسد عليها) أن الجميع بلا شك لديهم واتس أب.. لماذا؟ لأنهم شعب يحب الأشياء المجانية ويبحث عنها وحيث أن الواتس أب أغنانا والحمد لله من إرسال الرسائل عبر شركة الاتصالات التي أسالت دماءنا ورواتبنا في تسديد فواتيرها ولم نصدق فكرة عثورنا على الواتس أتب حتي نهب جميعا إليه فتوقعت أن هذا الشعب مثلنا بالطبع لكن لم أجد أي أحد يعرف أو حتى لو عرف أن يهتم بتحميل الواتس أب في جهازه فسألت لماذا؟ ووجدت الإجابة بسيطة:
- لديهم شركات اتصالات محترمة لا تقتصهم من اليمين والشمال وتحاسب على كل رسالة ومكالمة بشكل منفصل؟ كما تفعل فينا شركات الاتصالات في السعودية بفواتيرها الغير معقولة.
ما تفعله الشركات في الولايات المتحدة هو إعطاؤك ما يسمى بالخطة (بلان) فتختار الخطة الشهرية المناسبة لدخلك؟ فماذا تريد؟ هناك خطط بثلاثة دولار في الشهر يعني تدفع فاتورة ثابتة كل شهر مقدارها 3 دولار تمكنك من الاتصال عند الطوارئ وهناك 60 دولارا تمكنك من الاتصال بكل الولايات وإرسال ما تشاء من رسائل بدون حدود وحتى واتس أب لكل المشتركين معك في السعودية؟؟!! وهناك 70 دولارا بما يمكنك من الاتصال الدولي وهكذا إلخ.
إذن إذا كان بإمكاني التواصل وإرسال ما أشاء من صور وفيديوهات ومواقع من خلال رسائل الجوال فلا حاجة للواتس أب؟ ومن ثم تظل الرسائل في حدودها فلا توجد مجموعات ولا توجد رسائل لا نهاية لها ولا يوجد هذا الجنون والانشغال الذي لا مثيل له بمجموعات الواتس أب كما أرى عندنا في السعودية.
أنا أتمنى من كل من يقرأ هذه المقالة أن يقوم وفقط ليوم واحد: فقط ليوم واحد بحساب الوقت الذي يستهلكه في الرد على رسائل الواتس أب أو التجاوب مع مجموعاته؟ ولنسأل مثلا كم مجموعة لديك في الواتس أب؟
في الغالب سيكون هناك مجموعة العائلة (طيب أية عائلة؟ عائلتك الصغيرة وهي الزوجة والأبناء؟ أو إخوانك فقط من البنين والبنات كما أفعل أنا مع إخواني وأخواتي) أم العائلة الخاصة بوالدتي وهي نحن الأبناء والبنات وأزواجهم وأولادهم) أم هي مجموعات الصديقات «وأية صديقات؟؟ هل هي مجموعة صديقات النكتة كما نسمي أنفسنا (وهذه فقط مخصصة للأشياء الممتعة والمضحكة)؟ أم مجموعة صديقات على كيفك أم هي المجموعات الأكثر جدية ومنها (وليس كلها) مثلا:مجموعة الكتاب (نادي الكتاب)، مجموعة اللقاء الإحدي (الأحدية النسائية ولها مجموعتان)، مجموعة الفن السابع (والتي تعنى بالفنون والسينما).
وإذا انتقلنا للمستوى المهني فسيذهلنا حجم التعاملات التي تتم عبر الواتس أب وسأكون نموذجا نستعرضه هنا:
أنا في جامعة الملك سعود وتوجد لدي مجموعات الجامعة في جوالي وهي أكثر من سبع مجموعات بالتأكيد ولكم هنا بعض الأمثلة: مجموعة قسم التربية، مجموعة لجنة الدراسات العليا، مجموعات اللجان الأخرى التي أعمل بها وهي حوالي أربع حتى نصل إلى مجموعات المواد التي أدرسها وهي ثلاث (هذه الآن صارت أكثر من سبعة : صح؟؟) وهناك مجوعة مؤتمر الطفولة حتى لا أنساه.
حول الواتس أب حياتنا إلى مجموعات تتهامس وتتواصل وتتشاكى وتضحك عبر التواصل التلفوني الذي استهلك كل وقتنا وأكاد أحلف أن كل واحد فينا ومنذ أن يستيقظ ويستعد لنهاره فأول ما يلقي النظرة هي على ما استجد من رسائل في الواتس أب؟
وهكذا ينتقل الواحد منا من مجموعة إلى أخرى ويتلقى أشياء جديدة ويرد على هذا وذاك وفجأة تتبخر ساعة ثم نصف ساعة ثم أركب السيارة ثم أطالع الواتس أب مرة أخرى ثم يتبخر وقت السيارة وهكذا حتى أصل إلى المكان الذي أريد دون أن أنجز شيئا غير الإجابة على الواتس أب؟
ولا تقف مشكلة الواتس أب هنا وهي استهلاك وقت الفرد (دون أن ينتبه) بل تتعداه إلى تصدير هائل لكل الخرافات والترهات والأشياء غير المعقولة والتي يتم تداولها بين الجميع دون حتى التفكر فيها وقراءتها بدقة قبل الإرسال. هناك شعور بالحضور يخلقه الواتس أب عند إرسال شيء عبره فيهب الجميع للرد عليه مما يخلق حضورا لدى الشخص في تلك اللحظة يجعله حريصا على الإرسال والرد على ما يأتيه حتي يبقى في الصورة؟ أية صورة .. لا أفهم... لكن تحول الواتس أب إلى شاشة اجتماعية كبيرة في كل دقيقة تظهر فيها صورنا وكلماتنا وكل واحد يستميت: كيف يمكن أن أبقى أطول فترة ممكنة داخل شاشة الحضور الواتس أبي؟
الثمن؟ تماما مثل ما دمر توتير حياة الكثيرين، يفعل الواتس أب نفس الشيء الآن: سرقة الجميع وخاصة النساء من بيوتهم وأهاليهم ولحظاتهم الحميمة ولماذا؟ لأننا حريصون على التواصل مع الجميع إلا أنفسنا؟
مشكلة الواتس أب لا تقف بالطبع عند هذا الحد، إنها تمتد إلى المجال الأمني. فالشائعة تجد طريقها السهل عن طريق الواتس أب حيث يقوم شخص بإرسال خبر أو فيديو أو إشاعة مكتوبة بحذاقة إلى مجموعة وفجأة تتناقله كل المجموعات ليصبح حديثا متداولا دون أن نفكر للحظة؟ هل فعلا قرأنا وتمعنا في الخبر فيما إذا كان صحيحا أو معقولا من الناحية المنطقية؟ هل تثبتنا من مصادره؟ هل نعرف من أرسله ولماذا؟ من أين جاء الخبر أصلا؟ كل هذه العمليات التي يستخدمها العقل العلمي عادة في المجتمعات التي ربيت عبر نظم تعليمها على استخدام عقلها نجد أننا هنا لا نستخدمها؟ لماذا؟ ليس لأننا أشرار نريد زرع الفرقة ونشر الشائعات بالطبع ولكن لأننا اعتدنا وبميكانيكية شديدة على بعث رسائل لا نتثبت من صدقيتها.. خاصة وأن عالمنا هنا في السعودية وفي غالبية ما يقوم عليه ليس مبنيا على العقل والتفكر قدر ما هو مبني على الاحتمالات والتصور المستقبلي وعلى ما يقول الناس وما يظنون إلخ من العوامل الخارجية التي تتحكم في ردات فعل الإنسان.
هل تودون الاحتفاظ بالواتس أب بعد كل هذا؟ أنا أقول نعم للأسف. لا أستطيع أن أستغني عنه حتى ترحمنا شركة الاتصالات من فواتيرها القاتلة؟!