نضيق بشيوع المصطلحات الأجنبية وكثرة تداولها في مواضع تغني عنها العربية كل الغنى؛ فلا يمكن أن نمر بشارع أو متجر أو مطعم أو مقهى إلا وتصادفنا هذه الكلمات؛ عنواناً لمحل أو اسماً لمشروب أو مأكول: «كافي تشينو، إسبريستو، ميلك، تي، ثانيكو، باي، استيشن، جد نايت، فلايت، تواليت، باسبورت، تايتل، فل، ماي فريند»، وهكذا.
وكان من اليسير جداً ونحن نتحادث في ديار بني يعرب أن ننطق المسميات الآنفة الذكر بالعربية؛ فنقول: قهوة بالحليب، قهوة سوداء، حليب، شاي، شكراً، مع السلامة، محطة، ليلة سعيدة، طيران، حمام، جواز سفر، عنوان، ممتلئ، صديقي، ونحن بهذا نحترم أنفسنا ونعتز بلغتنا ونعلم غير العرب كيف ينطقونها نطقاً سليماً ليأخذوها منا سليمة؛ لا أن نرددها ملحونة عوجاء كما ينطقونها.
لا شك أن ثمة دوافع نفسية خلف هذا التصرف؛ تدفع من يقحم كلمات إنجليزية كثيرة في حديثه مع العجم أو العرب أو حتى مع أسرته وأصدقائه ممن قد لا يتقنون الإنجليزية إتقاناً تاماً؛ إحساساً بالزهو، والتباهي بأنه منقطع عن الحديث باللغة العربية؛ لا الفصحى السهلة كما يتحدث بها المثقفون فحسب؛ بل حتى بالعامية؛ فهو -في حقيقة الأمر- يوحي لمن حوله عرباً وعجماً أنه لا ينتمي إلى هذه الأمة ولا يعتز بتراثها؛ لأنه يجدها الآن في مرتبة دونية بين الأمم وفي الرقم الأخير أو لا تكاد تكون موجودة حين تذكر الأمم التي تبني وتنجز وتسهم في حضارات العصر!.
وهذا الصنف من أبنائنا وممن حرصنا عليه أن يتعلم اللغات الأخرى عند أهلها ببعثه إليهم ليتمكن من العلوم والمعارف والآداب باللغات الأصلية التي كتبت بها، ينسى أن مهمته ليس سحق لغته وتغييبها وازدرائها وإهمالها والتنكر لها؛ بل ليمد أهلها بما يحتاجون إليه من المعارف والمنجزات العقلية، وليدفع بقومه للخروج من مرحلة الأخذ والنقل والتقليد والاحتذاء فحسب إلى مرحلة الإبداع والإنجاز والإضافة إلى حضارة العصر، بما ينقل أمته ولغته من الضعف والتهميش والنسيان إلى القوة والتأثير والحضور، وستكون العربية عنواناً لتقدم الأمة، تخرج من دائرة الخجل والحياء وشعور قومها بالهوان حين ينطقون بها إلى فضاء العزة والفخر والزهو؛ كتلك المشاعر التي تضطرب وجدانات الأمم والشعوب الأخرى المتقدمة؛ حين يتحدث خطيبهم في أي محفل رسمي عالمي أو مؤتمر علمي دولي بالإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية أو الروسية أو الإسبانية أو الصينية أو اليابانية وغيرها.
إن من خصائص اللغة العربية النادرة التي لا تتوافر للغات عالمية كثيرة مقدرتها على التكيف مع اللغات والمصطلحات الأخرى؛ فلا تلبث الكلمة الغريبة الغازية الجديدة إلا وقد أحسن اللسان العربي صياغتها في بوتقته وأدخلها في معجمه أو ولد أو اشتق لها من قاموسه الثر المليء بالمترادف والمتشابه ما يصف معنى الكلمة الجديدة أو الفكرة الطارئة وصفاً دقيقاً محكماً، ومن هنا أثبت القرآن الكريم كثيراً من الكلمات التي أعاد اللسان العربي بناءها حسب مخارج حروفه إلى أن أصبحت سهلة مستساغة لينة طيعة، ومن ذلك كلمات كثيرة من اللغات الفارسية والحبشية والبربرية والنبطية والعبرية وغيرها كبستان، وسندس، وإستبرق، وتنور، وأباريق، وسجيل، وسرادق، وقنطار، وفردوس، وقسطاس، ومرجان وقراطيس، ومهل، ومجوس، وغساق، وغيرها كثير.. وقد توسع في بحث ذلك جلال الدين السيوطي في كتابه الفريد «الإتقان في علوم القرآن» وكتابه الآخر «المهذب فيما ورد في القرآن من المعرب» وكتاب أبي منصور الجواليقي «المعرب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم».
إذا استوطننا الشعورُ بالدونية ولم نعتز بلغتنا؛ فكيف يمكن أن يحترمنا الآخرون؟!.