جاء انخفاض أسعار النفط ليثير كثيرًا من الأسئلة حول المستقبل الاقتصادي والمعيشي في الوطن، الذي كان يعتمد على المادة الخام في أكثر من 90 في المئة من إيراداته المالية، والحديث داخل الوطن عن بدائل للنفط يختلف عن خارجها، فالنفط تنظر إليه الدول المتقدمة على أنه مصدر رئيس للطاقة في مختلف مجالات الحياة، بينما نراه مصدرًا للحياة ومنبعًا سهلاً للثروة المالية، وهي رؤية تختلف تمامًا، وتجعل من انحسار أسعار النفط أشبه بالكارثة الاقتصادية على هذه البلاد..
وإذا كانت مصر هبة النيل حسب هيرودت، فإن النقلة السياسية والمعيشية والاجتماعية في الوطن كانت هبة النفط، الذي تم اكتشافه في مراحل شديدة الفقر الاقتصادي، وكان قرار التنقيب عنه، ثم اكتشافه أعظم إنجاز بعد التوحيد، وقد ساهم في إحداث أهم نقلة تاريخية في مرحلة في غاية الشراسة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.
لم يكن النفط نقمة، بل كان نعمة ساهمت في إضفاء بعضًا من اللين على القسوة والتحجر العقلي، وفي تخفيف القيود والأغلال الاجتماعية، وفي الوصول إلى حالة السلم الاجتماعي، وقد كانت وجهة نظر الذين يرونه نقمة أنه ساهم في تباطؤ ثقافة العمل وزيادة معدلات الاتكال والكسل، لكن التاريخ علمنا أن ثقافة العمل في الجزيرة كانت محدودة وغائبة عن كثير من الفئات، وكان التناحر والغزو أحد سبل البحث عن لقمة العيش.
لم يكن النفط نقمة، بل كان هبة ربانية، وكنا عالة عليه، عندما لم ندرك كيف نتعامل مع المنحة السماوية، وعندما عاملناه مثل مصباح علاء الدين الذي يلبي الرغبات في لمح البصر، وذلك عندما قررنا بيعه خامًا في براميل في سوق النفط، ثم استهلاك بعض عوائده في مظاهر الرفاهية الاجتماعية، وقد نستطيع القول إن أهم فرصة تاريخية في الجزيرة العربية في الوصول إلى نمط المجتمع الصناعي المنتج قد تلاشت، وأن الأمل في تحويل الناس إلى كائنات منتجة قد ضعف كثيرًا.
يعد مصباح علاء الدين رمزًا للاتكالية وعنوانًا لتحقيق الأحلام والأماني، وأملاً غير حقيقي في أن تهبط على الإنسان الثروة بمجرد دعك بسيط للفانوس السحري، كان ذلك قدر إنسان هذا الوطن، وقد كان برميل النفط بالفعل بمثابة مصباح علاء الدين، وكانت أمنية هذا الإنسان أن يحظي بثورة طائلة بمجرد الاستجداء والإلحاح في الطلب، لذلك تنتشر في المجتمع قصص الأفراد الذين كونوا ثروات خيالية بمجرد القرب من مصباح علاء الدين أو من براميل النفط.
يمثل مصباح علاء الدين حالة أشبه بتحقيق الأحلام في حالة اللا وعي عند الإنسان، وعادة يحتاج الإنسان البسيط إلى فكرة المصباح في عالم اللا يقظة لتحقيق أحلامه البعيدة، وهي حالة نفسية مؤقتة من أجل الشعور بالسعادة ولو للحظات، لكن المتغير الأكبر في حياة المواطن عندما تحول المصباح إلى برميل سحري في عالم اليقظة، ليصبح القرب منه مفتاحًا لتحقيق الثروات، ووسيلة سهلة لتحقيق الأحلام الوردية.
انتشر الكسل وسادت الاتكالية بعد أن تحول النفط إلى وسيلة مباشرة للثراء أشبه بقصص المصباح السحري، وأصبح العمل المهني المضني مضيعة للعمر، ومع انتشار هذه الثقافة ظل النفط المصدر الوحيد في الإيرادات المالية في الوطن، ما راجت فكرة بسيطة، وهي أن الإنسان لا يحتاج إلى العمل والإنجاز لتكوين الثروات وتحقيق الأحلام، وأن مجرد الوصول إلى الشخص المناسب قد تحوله من إنسان مفلس إلى شيخ اقتصادي مؤثر، ويملك عدة مصابيح لعلاء الدين وغيره.
والآن وبعد أن راحت سكرة النفط وجاءت فكرة الواقع، ماذا نحن فاعلون للمستقبل، هل سنظل نكابر؟، ونتأخر في توفير بدائل اقتصادية للدخل الوطني المعتمد على النفط، أما أن نستمر في دعك المصباح، لعل وعسى أن يعود مارد النفط كما كان، ولو حدث وعاد إلى سابق مجده، فقد فقد المارد كثيرًا من حيويته وشبابه، وإذا لم نسابق الزمن في تغيير ذهنية الاتكالية على المصدر الواحد، لن تنفعنا كل مصابيح الأرض في إعادة عجلة الزمن للخلف لإصلاح الخلل الكبير..