لا أقصد الغش التجاري وإنما الدراسي والتعليمي.. منذ أن بدأتُ التعلم في مدارسنا فقد لاحظتُ كما لاحظ الكل انتشاراً هائلاً للغش، والطالب -سواءً طفل الابتدائية أو راشد في الجامعة- سيجد أن لا مفر من الهمسات التي تناشده التغشيش في صالة الامتحان، والنظرات المتلفتة الباحثة عن إجابة للأسئلة، وأما إذا كان طالب التغشيش وقحاً فسيستغل ابتعاد المراقب أو المدرس ليطلب مباشرة من أحد الطلاب إعلامه بالأجوبة، وإذا رفض الطالب أو كان منشغلاً بالحل فإنه -في عين المهمل- قد ارتكب إهانة في حقه.
ما سبب ذلك؟.. قد نجد العذر لذلك إذا كان المنهج الدراسي إجبارياً وصعباً، لكن الكثير من حالات الغش تشمل حتى أسهل المواد، لهذا يمكن أن نشير للإهمال والكسل كسبب رئيس للغش، فالطالب البليد يستطيع أن يركّز مع المدرس، وأن يحل واجباته، وأن يجلس على دروسه ليفهمها، وأن يناقشها مع الأستاذ، لكنه لا يفعل هذا، ليس لأنه مشغول بأشياء بالغة الأهمية، بل لأنه مهمل ولا يريد أن يتعب نفسه، فيقضي معظم وقته في التسكع أو مشاهدة التلفاز أو اللعب بالألعاب الإلكترونية، حتى إذا جاء وقت الامتحان مر مروراً خاطفاً على المادة، وهكذا -ما شاء الله- أدى ما عليه من مذاكرة، فإذا مر به سؤال صعب -وكلها ستكون صعبة لأنه لا يذاكر أبداً- ارتفع حاجباه بدهشة ودعا بالويل على هذا المدرس «الظالم» الذي وضع هذه الأسئلة «التعجيزية»، ثم نظر يمنة ويسرة باحثاً عمَّن يُخرجه من بئر إهماله. في النهاية فإن الكل مَلوم بالنسبة للمهمل: المدرس، المدرسة، وزارة التعليم، المدير، المجتمع، الظروف، حتى الطالب المجتهد الذي يرفض تغشيشه جزءاً من منظومة الظلم هذه التي انصبت على رأس هذا «المسكين».
يمكنني أن أتفهم أن يغش البعض اضطراراً، مثلاً أن تكون الأسئلة فعلاً تعجيزية، أو أن يكون هذا الطالب ذاكر كثيراً وأتقن المادة كلها، فيأتي الأستاذ ويضع أسئلة من خارج المنهج. لكن هذا لا يكاد يحصل، والغش سيجده المرء حتى في أبسط المواد. إن أسوأ ما في المسألة في رأيي ليس الغش نفسه، بل ضعف الهِمَّة. يا ترى، هل يمكن أن تتطور أمة لا يستطيع شبابها إيجاد بعض الهمة حتى يتعلموا قليلاً؟.. كيف تنهض أمة على أكتاف أناس لا يريدون أن يُتعبوا أنفسهم في حفظ أبيات قليلة من الشعر، أو فهم نظريات رياضية شهيرة، أو استيعاب نصوص أدبية جميلة من إرث أمتهم الثقافي؟.. دين الإسلام دين الهمّة الجَمّة والعزيمة العظيمة. الله سبحانه حثنا على التنافس في الخير وعلى الآخرة. رسول الله أمرنا أن نطلب العلم ونتقن العمل ولا نضع أنفسنا إلا في معالي الأمور. الصحابة كانوا أعظم الناس همماً بعد الأنبياء، وخرجوا من بيوت الطين في الصحراء فصنعوا إمبراطورية عالمية.. هذه هِمَم قدواتنا.
أخي الطالب، حتى لو شعرتَ أنك معك حق وأن غشك مُبرّر، ابتعد عنه، واعتمد على نفسك، واجعله تحدياً تُصرّ أن تنجح فيه من أجل كبريائك وهمتك، حتى لو أجهدك هذا، وكما قال المتنبي رحمه الله:
وإذا كانت النفوس كباراً
تعبت في مُرادِها الأجسام