أكمل من حيث انتهيت في مقالتي السابقة «الموازنة وتحديات الدخل»، والتي أشرت فيها بوضوح إلى استمرارية خطط التنمية، وإمكانية تحقيق التوازن في موازنة العام القادم، برغم الانهيارات الحادة في أسعار النفط، واضطراب الأسواق وعدم وضوح الرؤية المستقبلية لأداء الاقتصاديات العالمية.
وزير المالية، الدكتور إبراهيم العساف، أشار في تصريحاته الصحفية إلى استثنائية الظروف الاقتصادية والمالية الدولية، التي أعدت فيها موازنة العام القادم، وأكد أن المملكة «ستستمر في تنفيذ مشاريع تنموية ضخمة والإنفاق على البرامج التنموية خصوصاً في قطاعات الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية إضافة إلى تغطية الاحتياجات الأمنية والعسكرية». الوزير العساف أشار أيضاً إلى أن سياسة بناء الاحتياطيات المالية وتخفيض الدين العام أعطى المملكة «عمقاً وخطوط دفاع يستفاد منها وقت الحاجة».
جاءت تصريحات وزير المالية متناسقة مع رؤية المؤمنين بمتانة الاقتصاد السعودي وقدرته على تجاوز الأزمات الطارئة، والتعامل معها بكفاءة، ومتوافقة أيضاً مع ما كتبته في المقالة الماضية والتي جاء فيها: «خسارة ما يقرب من 45 في المائة من الدخل سيحدث أثراً بالغاً في الإيرادات، وبالتالي النفقات الحكومية، وخطط التنمية، إلا أن التخطيط المالي الحذق قادر على تحقيق التوازن المطلوب في موازنة العام القادم. يمكن للحكومة السعودية التعايش مع أسعار نفط منخفضة لسنوات قادمة، فانخفاض الدخل لا يعني بالضرورة إحداث تغيير جوهري في خطط التنمية، مع وجود بدائل التمويل».
الأكيد أن إعداد الموازنة في مثل هذه الظروف الحرجة لا يخلو من التحديات الكبرى، في ظل انهيار أسعار النفط، وعدم وضوح الرؤيا تجاه الطلب العالمي الذي يعتمد بشكل كبير على تعافي الاقتصاديات العالمية، إلا أن وجود الاحتياطيات المالية الضخمة ساعد الحكومة على ضمان مواصلة الإنفاق التنموي؛ المحرك الرئيس للاقتصاد، والمحقق للنمو.
استمرارية الإنفاق لا تعني تحقيق التوازن لموازنة العام القادم، بل يمكن أن تبنى الموازنة على عجز متوقع. وهذا يمكن تفهمه في ظل انخفاض أسعار النفط، ويمكن أيضاً مواجهته بسهولة من خلال الاحتياطيات المالية، أو من خلال سندات الدين، إلا أنني أستبعد لجوء الحكومة للسندات، إلا في حال إقرارها المشروعات الاستثمارية.
عدم المساس بمشروعات التنمية أمر جيد ولا شك، إلا أن تحقيق كفاءة الإنفاق أكثر أهمية، فمع انخفاض الدخل يستوجب على الحكومة التركيز بشكل أكبر على وقف الهدر المالي وتحقيق الجودة والكفاءة في مشروعاتها وإنفاقها العام.
الربط بين الإنفاق والنمو في تصريحات الوزير يمكن أن يكون منطقياً في اقتصاد ريعي يحتاج دائماً إلى الإنفاق الحكومي لتحقيق النمو المستهدف، وهو مطلب عالمي قبل أن يكون مطلباً محلياً.
بشكل عام، بدأت السعودية في الاستفادة من سياستها المالية ذات العلاقة ببناء الاحتياطيات وتقليص الدين العام، وإن كنت أتمنى أن تواصل الحكومة إصلاحاتها الاقتصادية وبما يساعد على التوسع في قطاعات الإنتاج، وتنويع مصادر الدخل، فمن خلالهما يمكن بناء قواعد الحماية والتحوط للموازنات القادمة.