لا أعتقد أن باحثا جادا لا يوافقني على أن من أهم أسباب انتشار ثقافة الإرهاب بين شبابنا كان غياب المناشط الثقافية الوطنية والترفيهية وغير المؤدلجة عن ساحاتنا، فشكّل ذلك الغياب فراغاً ملأه دعاة الحركيين المتأسلمين؛ فصارت النشاطات التي تسعى إلى أدلجة الشباب، وتُكرس ثقافة الثورية الإسلامية في أذهانهم، وتغيب الوطن والشعور بالمواطنة، هي النشاط الثقافي شبه الوحيد في الساحة الثقافية السعودية؛ ما جعل كثيرا من شبابنا يلبون ما يُسمى بالجهاد خارج الوطن وهو إرهاب صرف، بل والأدهى والأمر أن المجاهدين السعوديين الشباب هم أكثر من ينفذون العمليات الانتحارية كما تقول الأرقام والإحصاءات، رغم أن كبار علمائنا - ودعك من الحركيين - يُحرمونها قطعياً.
ولا يمكن محاصرة ثقافة الإرهاب تحت مسمى الجهاد وتمجيدها، والدعوة إليها، بطريق مباشر أو غير مباشر، والآلاف من شبابنا يتنادون لحضور المحاضرات والندوات والمناشط (التحريضية) على الجهاد والثورة على الأنظمة ؛ فما إن يصل إلى أسماعهم أن شيخا حركيا أقام ندوة هنا أو محاضرة هناك حتى يملأون قاعات هذه الندوات أو المحاضرات؛ وليس بالضرورة أن يكون ذلك طلبا للمعرفة، ورغبة في الاطلاع، وإنما لأنها ضرب من ضروب إشغال الوقت في الغالب، والأهم عدم وجود مناشط ثقافية منافسة، تطرح رأيا مختلفا، الأمر الذي جعل هؤلاء الحركيين المتأسلمين، (يستحوون) على أذهان الشباب ويوجهون بعضهم بما يتواكب مع الثقافة الثورية المتأسلمة، والتمرد على الأنظمة.
والثقافة في بلادنا لم تكن لها في الماضي جهة معينة تعنى بها وبشؤونها، وإنما عدة جهات حكومية، حتى تم تغيير مسمى (وزارة الإعلام) إلى مسمى (وزارة الثقافة والإعلام) قبل سنوات، وتم إلحاق الأقسام الثقافية المشتتة في بعض الجهات الحكومية لتعمل تحت إمرة هذه الوزارة؛ غير أن الاعلام بقي فيها أولوية، والثقافة ثانوية، رغم أن الثقافة في مسماها تتقدم على الإعلام.
الوزير الجديد الذي تم تعيينه وزيرا للثقافة والإعلام، من اهم ما هو مطلوب منه أن يجعل من الثقافة، ورعايتها، ومناشطها أولوية على أرض الواقع كما هي في المسمى؛ فنحن أحوج ما نكون إلى طرح مناشط ثقافية تقوم الوزارة بالمبادرة إلى إنشائها، ورعايتها وتشجيع فعالياتها؛ ولعل من المخجل أن يكون أهم مهرجان ثقافي ناجح في البلاد وهو مهرجان الجنادرية لا علاقة لهذه الوزارة به، ويتبع لوزارة الحرس الوطني، وتشارك فيه وزارة الثقافة والإعلام، مشاركة جانبية؛ فمثل هذا المهرجان، وفكرته، وفعالياته، وأنشطته، وإقبال الملايين من المواطنين عليه بشكل مبهر، يمكن أن يكون نموذجا يُحتذى، نستشف منه، ومن تجربته وزارة الثقافة والاعلام كيف يمكن جذب الشباب بعيدا عن الأدلجة، والتسييس باسم الدين؛ فلو قامت وزارة الثقافة والإعلام، بتنفيذ أنشطة مصغرة على غرار مهرجان الجنادرية، في مختلف المناطق، مستفيدة من تجربته الطويلة والناجحة ثقافيا، لما وجد الحركيون فراغا ليملأوه، ولحاصرنا عمليا تلك المناشط المشبوهة والمخيمات والمحاضن التحريضية على التمرد، التي تتحكم بالساحة الثقافية السعودية، باسم الإسلام، والدعوة إليه، وقد رأينا رأي العين هؤلاء المتأسلمين، ونتائج أنشطتهم متمثلة في القاعدة وداعش وجماعة الأخوان المسلمين وما تفرع عنها من حركات ثورية، والتحريض على الابتعاد عن هموم الوطن وثقافته وفنونه وتاريخه والعمل على تنميته، والتنادي لنصرة الآخرين خارج الوطن، والموت في سبيل قضاياهم.
وزارة الثقافة والإعلام تملك ما اصطلح على تسميته (القوة الناعمة)، وهي قوة الكلمة، والتأثير الثقافي والإعلامي؛ وهذه القوة في عصرنا الحاضر، بإمكانها أن تعمل الكثير لأبناء الوطن، وأن تحمينا من كثير من الشرور و الأخطار الثقافية المعاصرة؛ و هذا الحقل -أعني حقل الثقافة - ما يزال بكرا، وبإمكان الوزير الجديد أن يجعل منه حقلا نافعا ومثمرا ومعطاء؛ رغم أنني أعلم منذ البداية أن أي عمل ثقافي جاد خارج نطاق الأدلجة المتأسلمة أو هي بلغة أدق (الأخونة)، سيلقى مقاومة شرسة ممن يُسيطرون على الساحة الثقافية في بلادنا من المتأسلمين ومن يدور في فلكهم، كما هي محاولاتهم (التشويهية) للنيل من مهرجان الجنادرية الناجح؛ فقط لأنه ينافس ويحاصر ويشغل المواطنين عن نشاطاتهم المشبوهة.
إلى اللقاء.