أدق عبارة قيلت عن الشريعة ومقاصدها، هي مقولة ابن القيم (أينما يكون العدل فثم شرع الله). والشريعة لم تكن قط جامدة، أو متكلسة كما يزعم المتكلسون، بقدر ما هي تراعي الظروف ومصالح المجتمع وتواكبها. عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أكثر من أثبت ذلك، ودلل عليه في عهده، فعلق حد القطع رغم أنه نص قرآني، لأن ظرفا طارئا حل بالمسلمين بسبب مجاعة (الرمادة)، ومنع الزواج من الكتابيات، لأن مصلحة المجتمع حينئذ تتطلب ذلك، رغم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أباحه، كما أوقف حق المؤلفة قلوبهم من مردود الزكاة، لأن الظروف السياسية، وظروف القوة والضعف تغيرت، كل هذه الأدلة تعني فعلا أن شريعة الإسلام تتلمس العدل، وتواكب المصالح، وتتغير مع الظروف ومع متطلباتها. والمعني بتقرير ذلك، وتقدير الظروف، وقراءة الواقع، والتماهي معه، هو حصرا (ولي الأمر)، الذي بايعه خاصة أهل بلاده - وليس بالضرورة جميعهم، أو كل عامتهم - وعليه بهذه المهمة القيادية أن يتلمس المصلحة، وأن يعمل لإقرار العدل، وأن يمهد السبل لتطبيقه كغاية لا تعلو عليها غاية في شؤونهم الدنيوية إلى جانب الغايات الدينية.
ومن يقرأ أوضاع المجتمعات المعاصرة اليوم قراءة موضوعية وعميقة لا يمكن إلا أن يجد فرقا شكليا وموضوعيا يصل إلى مرحلة الجذور بين (مجتمعات السلف) و(مجتمعات الخلف) وبالتالي فإذا كان القصد (العدل)، وتلمس (المصلحة،) والعمل على التواؤم مع متطلبات الاستقرار، فإن كل هذه المتطلبات (الموضوعية) تدعو إلى التعامل مع ما تتطلبه الظروف، تماما كما فعل عمر بن الخطاب حينما تعامل مع متطلبات ظروف زمنه وكيّف الأحكام معها في زمنه لتواكب العدل وتتناغم مع المصلحة؛ من هنا تأتي ضرورة (تقنين الشريعة).
وتقنين الشريعة أو (تدوينها) كمصطلح، يعني أن يتم (تدوين الأحكام الفقهية) والراجح منها حسب متطلبات الواقع الذي نعيشه، بلغة وآلية تأسيسية وتفريعية في مواد مستقاة من الشريعة، ولا تخرج عنها إطلاقاً، تتماهى مع العصر؛ بحيث يفهمها أولا القضاة، وثانيا المحامون، والأهم يسهل على الناس من خلال قراءتها معرفة المسموح به، والممنوع فيجتنبونه. وهناك من الأنظمة التي صدرت حديثا حيال بعض المسائل المستجدة، وأصبح من المفروغ منه أن يلتزم بها القضاة في أحكامهم - نظام جرائم المخدرات مثلا - لا تجدها من مدونات كتب الفقه التقليدية، وكذلك اتفاقية: (تحريم الاتجار بالبشر) التي التزمت بها المملكة وأقرت العمل بمقتضاها؛ مثل هذه المستجدات لا يمكن أن تُترك قضايا عائمة و اجتهادية، وإنما لا بد وأن تضبط لكي تكون محل التزام القضاة، وحيثيات لأحكامهم بالتجريم أو بالتبرئة؛ وهذا يتماهى في الشريعة مع قاعدة ( تقييد المباح) التي استنتجها فقهاء الأصول من ممارسات عمر في عهده، ودللوا عليها بأحكامه في عصره. ولعل أدق حالة لتقييد المباح لعلاج قضية طارئة أو مستجدة إباحة فقهائنا منع السعوديين الزواج من غير السعوديات إلا بإذن السلطات الحاكمة، فالقياس هنا كان على منع عمر بن الخطاب زواج المسلمين في عهده من الكتابيات رغم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أباحه؛ فالدافع على المنع في الحالتين تحقيق مصلحة المجتمع التي تتغير بتغير الزمان والمكان؛ وبذلك يمكن القول: إن توخي المصالح الاجتماعية، وما يمهد للوصول إلى العدل، كغاية دنيوية، هو من مقاصد الشريعة.
وأختم مقالي هذا بمقولة (مُعبرة) لابن القيم تقول: (الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد, وهي عدل كلها, ورحمة كلها, ومصالح كلها, وحكمة كلها, فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور, وعن الرحمة إلى ضدها, وعن المصلحة إلى المفسدة, وعن الحكمة إلى العبث, فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل). لاحظ إشارته الذكية بقوله ( وإن أدخلت فيها بالتأويل)، أي ليس بالتأصيل.
إلى اللقاء..