إن كان الحديث عن الوزير الدكتور توفيق الربيعة فنعم الرجل والقدوة، وإن انتقلت الذاكرة إلى مرحلة سابقة فللدكتور عبد العزيز الخويطر والدكتور غازي القصيبي (رحمهما الله) أعطر الذكر وأجمل الحكايات كعمالقة في النبل والصدق بالقول والعمل، والذاكرة تتسع لعشرات من الأفذاذ من رجالات الوطن المخلصين حاضرهم وغائبهم،
إنما استدعى الحديث إيراد مثل يشع نوراً ما زال ضياؤه ينير دروب الأجيال للاقتداء بهذه القامات المكتنزة علماً وتواضعاً جماً، وتفانياً في أداء مسؤولياتهم بوفاء للوطن والمواطن كما ينشده ولاة الأمر من كل من توكل إليه مصالح الأمة فكانوا خير أمثلة تحتذى وتتحدث عنها المجالس، وتتخذها وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي خير نبراس تُذكّر به الأجيال المتعاقبة ليحذو حذوهم، وعن تواضع الوزراء قرأت لطيّب الذكر الدكتور محمد الرشيد غفر الله له قوله في أحد مقالاته: ولست أنسى أبداً تلك الوصية التي جاءتني في رسالة -المغفور له بإذن الله- معالي الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري حين شرفت باختياري وزيراً للمعارف وكانت هذه الرسالة منهجاً عملياً لكل من يبدأ عملاً مثل هذا، لقد كانت الوصية الأولى في هذه الرسالة؛ (أدخل عملك متواضعاً، أحكم تصرفاتك بانضباط لا يطغى عليه انفعال يكون له ردود فعل في نفس زميل لك في الوزارة، أشعر مسؤوليك أنه لا تمايز بينك وبينهم، وأن وجودك معهم غايته ووسيلته الخدمة العامة وتنشيط الأهداف).
ومن مواقف الدكتور غازي القصيبي بتواضعه الجم حينما شاهدته بصالة الانتظار بالمطار بمفرده ليستقل الطائرة كغيره من المسافرين، جاء قبل الموعد بلا حرس ولا مرافقين، وفي موقف آخر وبعد تدشين مرفق صحي بالرياض التم عليه (أُغيلمة) من مبتدئي الصحافة؛ ولا ألومهم إذ إن كل منهم يريد أن يظفر بكلمات من هذا العملاق لرفع أسهمه أمام رئيسه في الصحيفة، فكان رحمه الله يتحدث إليهم والابتسامة لم تفارق ثغره ويقول لهم كلاماً ليناً كوالد مع أولاده دون امتعاض أو ضجر، وأجابهم بقدر ضحالة أسئلتهم، فلما (أفرنقعوا) عنه التفت إلى عدد من الصحفيين المتمرسين الذين بقوا في الصف الخلفي، ولأنه بحذقه وعمق تفكيره قد لاحظ وجودهم واستنكافهم مزاحمة غوغائية الصغار؛ اتجه إليهم وتحدث إليهم بما يناسبهم من معلومات متعمقة حول المشروع والمشروعات اللاحقة، وتطرق الحديث لجوانب أخرى يدركها هؤلاء الصحفيون ويعون أبعادها، لينقلوا مضمونها لوسائلهم الإعلامية بواقعية وشفافية، بعيداً عن سوء الفهم والتقدير المحتمل من الفتية الصغار (المبتدئين).
التواضع من أوجب الخلق الحميد، ينبئ عن جوهر لطيف يستميل أفئدة الناس دون تكلف أو انتظار من صاحبه، لأنها تنجذب إليه كلما وضع نفسه مكان الإعجاب والتقدير، ويعلق أحد العارفين على هذه السجية الراقية بقوله: التواضع من أخصّ خصال المؤمنين المتّقين، ومن كريم سجايا العاملين الصادقين، ومن شِيَم الصالحين المُخْبِتين، هدوء وسكينة ووقار واتزان، التواضع ابتسامة ثغر وبشاشة وجه ولطافة خلق وحسن معاملة، وبتمامه وصفائه يتميّز الخبيث من الطيب.
ومما ورد من درر حكم السابقين في هذا الجانب من خلق الرجال؛ قول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع.