قلق التفكير
تستبد بي الأسئلة كلما أردت الذهاب إلى النوم وكلما فتحت عيوني أكثر من مرة قبل طلوع النهار، ويغلي القلق مع قهوتي الصباحية وينفر من شاشتي ويتناثر شظايا جارحة على وجهي، وكأنني المسؤولة الوحيدة
عما يجري على الأرض العربية من احتراب وتخبط وانقسامات ودخول في نفق التوحش عبر الحدود الوطنية والاقليمية والدولية وداخل المجتمع الواحد بأطيافه المتعددة السافرة والمقنعة وبين المجتمع و الدولة. بما لن يخرجنا منه لا التجييش ولا البطش بيد من حديد ولا تبادل الملامات ولا خنق الأصوات التي تحاول أن تفكر بصوت جهوري مشترك. فحرية الاسئلة ولا التحول لحركات مرتبكة أو فتاكة تحت الأرض.
***
قلق الأسئلة
ما هي الأسئلة الكبرى التي تطرحها الدراسات الاجتماعية عموما ويطرحها علم الاجتماع وفرع علم اجتماع المستقبل منه على وجه التحديد؟.
كثيرا ما أطرح على طالبات التخرج وطالبات الدراسات العليا في علم الاجتماع هذا السؤال باعتبار أنهن قد قطعن شوطا معرفيا يمكنهن من التعرف على إجابات هذا السؤال أو على الأقل يمكنهن من بحثه. وفي بحث هذا السؤال وإن كانت تأتيني الكثير من الإجابات الجاهزة المتكلسة في كلاسيكيات أوجست كونت ودوركايم وفيبر من علماء الاجتماع، فإنها تأتيني الكثير من الإجابات المتوهجة في مناكفات رايت ميلز و وهيوم وجدنز. على أن المهم في هذا السؤال هو إشكالية، إن صح التعبير، ذلك المفهوم العمراني الذي قام عليه علم الاجتماع في بداياته التأسيسية على ثنائية الفهم الأحادي لعملية الاستقرار والتغير في التجمع البشري. ويستند تطور الوعي بتلك الأشكلة على تراكم علم الاجتماع النقدي. فقد أخرج النقد عملية الاستقرار والتغير من اعتبارها حالة لا تعيشها المجتمعات إلا بثنائية أحادية، فإما تكون المجتمعات في حالة تغير أو في حالة استقرار، وقام بالنظر إلى جدل العلاقة بين الاستقرار والتغير، بحيث يعبر تفاعلهما عن تلك العمليات المتعددة والمعقدة التي بدونها لايمكن أن يكون هناك اجتماع بشري بالمعنى العمراني.
***
كانت هذه بمثابة مقدمة مختزلة رأيت توضيحها كتمهيد لتناول ما أراه أحد أبرز إشكالية مواجهة التحولات التي يمر بها العالم العربي اليوم. وهي إشكالية فهم وسلوك اجتماعية وسياسية عميقة قد لا تؤدي إلا إلى تعطيل الاستقرار والتغير وتجميد الجدل الجميل والسلمي للتحولات بتحويلها لحالة احتراب أو حالة انسحاب أو حالة محو.
***
قلق المقارنات الظالمة للاستقرار والتغيير
تجري أحيانا مفاضلات مختلة غير عادلة بين خيارات ثنائية لا تقوم على اختبار هذه الخيارات وتمحيصها والبحث عن بدائلها، بل على العكس من ذلك، تقوم بتضييق الخيارات وطرحها كمسلمات حتمية بهدف الترغيب في خيار والترهيب من آخر. وقد ظننت في مطلعي المعرفي وبداية تفتح حسي السياسي أنه ربما من مثل هذه المقارنات نشأت تلك الأمثال الشائعة مثل: «ارضى بقردك لا يجيك أقرد منه»، «الله يحلل الحجاج عند ولده» و»اللي تعرفه خير من اللي تنكره»، «والحمى أرحم من المليلة» إلى أن عرفت من قراءاتي ودراستي الجامعية لعلم الاجتماع خاصة، أن للثنائية التفاضلية جذور فلسفية تعود إلى مرحلة التصور الأسطوري للعالم بما فيه تقسيم قواه إلى قوى ثنائية متناطحة بين الخير والشر، وبين الظلام و النور وبين الاستقرار والتغير أو بين المحسوس والغيبي، بل وبين البقاء والفناء. وهي ثنائيات عالج قطعيتها ومركزية تقابلها التفكير العلمي والنظرية النسبية منه والتحولات المجتمعية الكبرى على المستوى السياسي والاجتماعي والفكري بتعدد أطيافها واختلاف مرجعياتها. غير أنني لاحظت أن حدة الثنائيات بمعناها المتوازي الذي يقطع أي خطوط التقاء بينهما ويجعل من كل طرف النقيض الوجودي للآخر دونما خرم إبرة لأي خيارات بديلة، كثيرا ما تستخدم في إثارة المخاوف بالمجتمعات المتخلفة والمتقدمة معا. وكلما كان مفعول هذه الثنائيات أقل كانت الشعوب قادرة على التفكير المستقل والتفكير التعددي في الخيارات خارج الوصاية السياسية أو الوعظية الدينية أو الإعلانات التجارية والعزف الإعلامي المنفرد، فإن هذه الثنائيات تعيش حالة من الازدهار الباذخ المقتدر على خنق أي اختيارات محتملة أخرى سواها في المجتمعات المتواكلة على غير نعمة العقل. وهذا ما يستطيع أي مراقب «لم يؤجر مخه خوفا أو طمعا أو مجاراة» أن يرى حدوثه بحذافيره في عالمنا العربي اليوم وخاصة من بعد اندلاع الربيع العربي بالمنطقة والمحاولات الملحاح الناجحة في معظمها لتحويله إلى حريق شمشوني. فانحصرت الخيارات بين ثنائية الجمود أو الفوضى، بين الحبس في الجسد أو الحبس في الغياهب، بين التشدد السياسي المتأسلم والمتأزم وبين فلول النظام السابق وأزلامه إن لم يكن بين الحركات المتشددة وبين النظام ورئيس النظام «ذات نفسه» كما في الحالة السورية. وباستثناء المثال المشرق المختلف نسبيا في تحولات تونس، فإن الملفت هو الكيفية التي يجري بها توظيف هذالثنائية نحو مزيد من تكريس أحادية الفكر والفعل السياسي وتكسير أجنحة التحولات. بما حول الحالة العربية أو كاد لتصبح غير قادرة على التحرك إلا في حمى تلك الأحادية وضمن سقوفها الخفيضة او في ظل نواقض الحياة السوية من شراذم تنظيمات التشدد. فعلى مستوى المجتمع لا تفضي هذه الثنائية إلا لخيارين لا ثالث لهما. فإما جحيم الاحتراب الطائفي والإثني والعرقي والمذهبي والعشائري والمناطقي وإما رحمة الأحادية السياسية والمرجعية بأدوار البطولات الماحقة لغيرها. وفي إطار هذا التوظيف للثنائية على مستوى الدول يصبح الممكن الوحيد لوقف أقدار الانهيار هو المفاضلة بين نيران عدوة وبين نيران صديقة، وإن كان يوقد لها وتمد ولائم جيوشها الجوية من زيتنا وقوت الحاضر والغائب من أجيالنا.
وفي هذا تتوازى المسافة تماماً بلا أدنى نقطة التقاء ولو من باب تأنيب الضمير بين محتل نمضي مئة عام للتحرر منه وبين محتل رحيم كعدو ليس من صداقته بد يحتمي به بعضنا من بعضنا مع دفع كامل التكاليف المادية والمعنوية والبشرية الباهظة، ونحن نضحك ونظن من ظهور أنيابه انه يضحك لنا وليس علينا ولا استعداداً لنهشنا.
وإذا كان المجتمع العربي لايعيش في اللحظة الراهنة إلا على حاسة التفجع من أن يكون القادم أفظع وافدح، فإن مقتضى رفع هذا الكابوس ليس بمدائح الأطلال.
***
قلق الضمير
وفي منتهى مؤقت أختم بقول الشاعر نسين عزيز كلما أوشك حارسي على النعاس هززته. كما أختم بكلام شفيف للكاتب المعتزل ابن عبد ربه في قوله إن صورتي أصبحت أكبر من مضموني، إن التوقعات أصبحت أكبر بكثير من طاقتي ومن قدرتي الحقيقية بعيداً عن الزيف والتصنع. وأضيف أن الكتابة صارت أصعب تمارين القامة لمن أراد أن يكون له موقف، وأصعب تمارين اليد والسمع واللسان لمن ابتغى محاشات التلوث، وأشقى تمارين البصر لمن أراد أن يرى وسط كل هذا الحريق وهذا الضباب. وهي -على أي حال- اقسى تمارين الروح لمن أراد عدم التفريط في نعمة الحياء والحرية. غير أننا نقول «قلق التفكير ولا سبات الضمير».
ولله الأمر من قبل ومن بعد.