أعتقد أن الهاجس الأول للمواطن السعودي هو الفرق بين الصرف الهائل على التنمية، وهزالة المخرجات الحقيقية للتنمية على المستوى المعيشي. إذا كان الهاجس الأول هو هذا، فإن الهم الأول للمواطن هو الحصول على السكن الملائم، بما يحفظ كرامته وأسرته وصحته وراحته النفسية. هذا الهم يتشارك فيه على الأقل ثلاثة أرباع المواطنين السعوديين. الحديث عن الهاجس الأول والهم الأول للمواطن السعودي هو أهم قضية ويجب البحث فيه مراراً وتكراراً حتى يوجد الحل، كما أن البحث فيه يقود حتماً إلى الحديث عن الفساد المستشري الذي يعقّد الأمور ويجعلها مستعصية على الحلول رغم توفر السيولة المالية، على الأقل حتى الآن. الاستعصاء على الحلول سببه الأول والوحيد هو استعصاء رموز الفساد الكبار على التوقيف أمام القضاء الشرعي للمساءلة وإنزال العقوبة المستحقة واسترداد المسروقات.
أصبحت كلمة «رموز الفساد» أكثر كلمة متداولة في المجالس السعودية. المشكلة هي بقاء رموز الفساد بدون أسماء، وفي وضع يشبه وضع نائب الفاعل والمبني للمجهول في اللغة العربية. تعلمنا في الابتدائية أن نائب الفاعل يبقى دائماً مرفوعاً، لأنه يقع بعد فعل فاعله مجهول. تخرجنا من الثانوية والجامعة والدكتوراه، ولا يزال وضع نائب الفاعل والمبني للمجهول كما هو.
للتذكير فقط، يُعرب نائب الفاعل في النحو العربي بطريقة المبني للمجهول، فيكون مرفوعاً دائماً بالضمة الظاهرة على آخره. لا بأس، لكن الذي تخفيه القواعد هو السبب الذي رفعه وضمه، بحيث لا تظهر فتحة المفعول به مثلاً على آخره، أو على الأقل كسرة المجرور، إن لم يكن من رقبته فعلى الأقل من ذراعه.
لا أحتاج إلى التنبيه، أعرف أن الكلام هنا عن الفساد المعطِّل للتنمية والمسمِّم للتعايش الاجتماعي، ولا يجوز المزح في مثل هذه الأمور، لذلك أعود للكلام الجدي. في أي مجلس يُلاك فيه الحديث عن رموز الفساد، تسأل عن أسماء لأنك تريد أن تعرف ولو البعض منها بدلاً من الكلام في المظنون والمتخيَّل، ولكنك لا تحصل على جواب. إن كان ثمة جواب فهو بمثابة لا جواب، موحد وغير مقنع. كل من تسأله يقول إن رموز الفساد معروفون يا أخي ولا داعي للتسميات. أُراهن على أن أي إجابات استبيان ميداني في السعودية عن الفساد سوف لن تخرج عن حدود إجابتين: الفساد منتشر ورموزه معروفون، ولكن لا داعي للتسميات.
عندنا هيئة رسمية ذات حصانة إدارية اسمها هيئة مكافحة الفساد، لكنها بدون تأثير. الفساد يبقى كما هو، ورموزه باقون في خانة نائب الفاعل والمبني للمجهول. هيئة مكافحة الفساد لا تستطيع تحويل الضمة إلى فتحة أو كسرة. كل ما تستطيعه أن تبقي الأمور على الأقل في حالة السكون. أنتم تعرفون دور حلمة المطاط التي تسمونها اللهاية، لأنها تكبس في فم الرضيع عندما يجوع ويصرخ طالباً حقه من الحليب. الكثيرون من المواطنين يرون أن هيئة مكافحة الفساد لا تؤدي أكثر من دور اللهاية، مصاصة مطاطية بدون حليب.
أسماء اللصوص الكبار الذين سرقوا الإقطاعات الواسعة ونهبوا الميزانيات المرصودة للمشاريع وأموال التنمية الوطنية وحوّلوا أرصدتهم إلى الخارج، هذه الأسماء تبقى بالنسبة لهيئة مكافحة الفساد مرفوعة بالضمة الظاهرة في أواخرها، أي أنها باقية دائماً في مقام المبني للمجهول ونائب الفاعل. حتى الإفصاح عن المبالغ المتواضعة التي رصدت هيئة مكافحة الفساد طرق اختلاسها، أو الإشارة إلى مشاريع متعثرة معروفة للجميع تبقى قدرة الهيئة على ذكر أسماء الأشخاص والشركات والمؤسسات الضالعة فيها غائبة ومقيّدة. العذر جاهز، تقول الهيئة إنها لا تملك سلطات تنفيذية، وإن مهماتها الأساسية هي الرصد والإثبات ثم الرفع إلى من يهمه الأمر. في هذه الحالة يُستحسن التنازل عن الاسم والتعريف، ويُكتفى مثلاً بمسمى هيئة محاولة الكشف عن احتمالات الفساد. عندما نُسلِّح عسكرياً لحفظ الأمن نعطيه الصلاحية ضمناً لإطلاق الرصاص عند الحاجة.
على كل حال، لا شك أن الهيئة لا تستطيع أن تقوم سوى بالدور المطلوب منها في حدود الستر والإمكانيات والخطوط المحكومة بقواعد النحو والصرف. عندئذٍ يصبح سؤال العنوان لهذه المقالة مُلحاً، هل الحكومة جادة في مكافحة الفساد؟.