يكرِّس الكاتب التنويري الأستاذ إبراهيم البليهي الكثير من كتاباته حول دور المفكرين في المجتمعات، كنبتات نبوغ نادرة لا تتكرر كثيراً بين الأعداد الهائلة من البشر، لكنها حين يسمح لها بالنمو الحر تثمر النقلات النوعية الريادية في مسيرة الحضارة البشرية.
المجتمعات التي تتقبل شذوذ العبقرية عن السائد التقليدي أو التبليدي، تحرص على رعاية عبقرياتها، فتحيطها بما هو مطلوب وضروري من الاستنبات والاهتمام، لكي تجني من تلك النبتات النادرة ذلك المحصول الثمين الذي نسميه الإبداع بكل أشكاله. خلاف ذلك يحدث في المجتمعات التي تحارب الخروج على السائد والقديم وتتوجس من شذوذ العقول النابغة، فتتعامل معها بما يمليه الخوف من الجديد ويتطلبه الحرص على إبقاء مفاتيح الخزائن القديمة في يد الورثة المقلدين . في مثل هذه المجتمعات تستأصل شأفة العقول النابغة من بداياتها، أو تطارد بالإهمال والتجويع والعزلة، إن هي نجت من الوأد المبكر في بداياتها الأولى .
مع أول سطر في كتابة هذا المقال حول شروط البحث العلمي تذكرت العالم العراقي في الرياضيات والهندسة ومؤسس علم البصريات الحسن بن الهيثم، الذي مات مغترباً في الإقامة الجبرية بمصر . بموت ابن الهيثم اختفت نظرياته وأبحاثه الثمينة من كافة ديار الإسلام، إلى أن تم نبشها والبناء عليها في أوروبا، لتأسيس علوم الأجرام السماوية ودوران الأرض حول الشمس وخواص التكبير والتصغير في العدسات المشطوفة (الميكروسكوبات)، إلى آخر ما له علاقة بخواص الضوء الفيزيائية وجعل ما لا تدركه العين مرئياً بأدق التفاصيل .
ولد الحسن بن الهيثم في بيئة عدوانية طاردة للعقول النابغة، فهاجر من العراق إلى مصر بحثاً عن التطبيق العملي لعلمه، وهناك مات، وإلا لكان وجد في العراق أو الشام أو مصر في القرن الرابع الهجري من يوفر له من الزجاجين وشاطفي العدسات والمرايا والصنائعيين من يؤثث له ورشة عمل متكاملة، لينقل عالمه آنذاك إلى آفاق مذهلة من التطور والريادة الحضارية.
الآن وبعد حوالي ألف عام على موت الحسن بن الهيثم في حبسه الانفرادي، ما زالت البيئات العربية تتعامل مع نوابغها بنفس الجفاء والإهمال، وبربط العالم بأصبعي الحاكم والشرعي، لمنعه من مغادرة الإطار المتعارف عليه . لا يدرك فداحة الفاقد السنوي من العقول العربية المهاجرة إلى الخارج سوى من يطلع على نسبة العلماء العرب الذين انسلخوا من جنسياتهم لصالح الجنسيات الأوروبية والأمريكية والكندية .
الاستثمار الوطني في الأبحاث العلمية والتطبيقية، بهدف الخروج من نفق الاعتماد الكامل على شراء الإنجازات الحضارية من الخارج يتطلب إحداث نقلة نوعية كبيرة في مفاهيم الحكومات العربية ومؤسساتها الدينية ومناهجها التعليمية .
لتوضيح ذلك سوف أحاول هنا تسجيل قائمة أولويات، كشروط لاستنبات البحث العلمي المفيد في البيئات العربية عموماً، والعربية الخليجية منها على وجه الخصوص .
أولاً : تحرير البحث العلمي من الارتباط المشروط بالمصلحة السياسية لأغراض إعلامية دعائية في الداخل والخارج .
ثانياً : تحرير الباحث العلمي من الشعور بوجود مراقب حكومي أو رقيب شرعي يؤطر له المساحة التي يستعمل فيها عقله، ليحدد له النتائج المطلوبة والمرجوة منه . البحث المعرفي عندما يتعرض للتأطير لا يعمل . شعور الباحث بوجود مسبار أو شخص ما يقبع داخل دماغه يشل قدراته الفكرية ويصيبه بالرهاب، والرهاب يشوش التفكير .
ثالثاً : تحرير البحث العلمي وطواقمه من تسلط البيروقراطية التي تهتم أولاً بتبييض وجهها أمام المسؤول الأعلى، بما يترتب على ذلك من التقتير المادي والتعطيل والتسويف في توفير متطلبات الأبحاث العلمية، واشتراطات الأرقام والأختام والجري خلف المعاملات البيروقراطية .
رابعاً : إيجاد رابط قوي ومباشر بين مراكز الأبحاث العلمية أينما كانت، مع القطاعات الصناعية والزراعية الإنتاجية، بهدف تبني وتمويل وتصنيع ما تتطلبه الأبحاث العلمية من تجهيزات أولاً ثم لتصنيع النماذج والنواتج التطبيقية الأولى (Prototypes) . الهدف من ذلك هو تخفيف احتكار الدولة للأبحاث العلمية ونقل الاستفادة من تطبيقاتها المادية والتسويقية إلى القطاع الخاص . من المعلوم بداهة أنه يتوجب على الدولة تحمل تكاليف القواعد والبنى التحتية الأساسية للبحث العلمي، وعليها كذلك واجب المشاركة الجزئية بتمويل الأبحاث، ولكن يجب أن تتخلى عن الحق المطلق في احتكار البحث العلمي ونواتجه .
في ألمانيا على سبيل المثال يتحمل القطاع الصناعي والزراعي الخاص العبء الأكبر من تمويل وتجهيز مراكز الأبحاث، مشروطاً بما سوف يحصل عليه من حقوق التصنيع والتسويق لاحقاً .
خامساً : الاهتمام الحقيقي كأولوية وطنية، مادياً ومعنوياً وإعلامياً، بطواقم العاملين في مراكز الأبحاث العلمية، وتقديمهم اعتبارياً على اللاعبين والمطربين وتجار الوناسة والإعلام والأضواء .
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم من هذه الوساوس التي أوحت لي بأفكار هذا المقال .