نحتاج إلى أمثلة مقنعة لنتائج التصالح مع التاريخ الوطني. لم تصبح الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الأكثر تأثيراً في العالم الحديث إلا بعد تصالح البروتستانت والكاثوليك والجنوب والشمال، واعتبار صراعات ولاياتها البينية، بما في ذلك الحرب الأهلية الأمريكية تاريخاً مشتركاً يتقاسم الجميع نتائجه ومسؤولياته بخيرها وشرها. الدول الأوروبية عموماً لم تصل إلى التصالح والتكتل في مجموعة الاتحاد الأوروبي إلا بعد تصالح الكاثوليك مع البروتستانت على المستوى المذهبي وتصالح مكوناتها الإقليمية مع بعضها سياسياً، واعتبار المسؤولية عن صراعات الماضي تاريخاً مشتركاً يتقاسم الجميع مسؤولياته ونتائجه.
أستكمل اليوم ما بدأته أمس الأول، وصولاً إلى محاولة الفرز العقلاني، لأتخلص مما راكمه بداخلي الشحن العشوائي، ولكي أستبقي ما يستأنسه الضمير المتصالح مع مجتمعه ومع المسؤولية عن مستقبل أجيالنا القادمة.
كنت أدرس في الغرب عندما بدأت الحرب بين الرأسمالية الأمريكية والشيوعية السوفييتية في أفغانستان، وأثناء اجتياح حركة جهيمان الإرهابية للحرم المكي، وكذلك أثناء بدايات التسييس المذهبي في كامل المنطقة بعد انتقال الحكم إلى المرجعية الدينية في إيران. لأنني كنت جغرافياً وإعلامياً خارج الأحداث، أمكنني الحصول على قراءات متعددة المصادر لما يدور في منطقة الشرق الأوسط من تطورات مدمرة. في تلك المرحلة تحديداً بدأت أعيد التفكير في ما سبق شحنه في عقلي من الشعارات وما ترتب عليها من نتائج كارثية خلفت بداخلي شعوراً عميقاً بالإحباط والفشل الحضاري.
بعد أن عدت إلى الوطن منهياً مهمتي العلمية، كانت المنطقة كلها قد أصبحت على أكف العفاريت، والحروب تأكل الأخضر واليابس. تم إلباس الحرب بين الشيوعية والرأسمالية في أفغانستان رداءاً دينياً مقدساً، لكنني كنت قد أصبحت على علم بأنها مجرد حرب قوى عظمى على النفوذ ولا دخل للأديان فيها على الإطلاق. المشاركون فيها من المسلمين فقط هم الذين ألبسوها ثياب الجهاد الديني لتبرير التجنيد لها وصرف الأموال عليها.
كذلك كانت حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق تشتد شراسة وتدميراً، بينما التبريرات من الطرفين كانت عنصرية دموية تخلط الدين بالمذهب بالقومية وتستخدم الشعوب فيها وقوداً بلا ثمن. جذوات الشحن المذهبي بدأت آنذاك تتطاير وتسمم المجتمعات والعقول، ووصل الكثير من لهبها الحارق إلى منطقة الخليج.
الآن وبعد أن تحولت تلك الشعارات القديمة التي حقنت بها في شبابي من تضامنية مع الجزائر وفلسطين وجنوب اليمن المحتل، وتشويهها إلى شعارات مذهبية وعقائدية عنصرية وإرهاب مذهبي متبادل، وصلت إلى شيئين، أولاً الاقتناع بضرورة إخضاع النفس للفرز العقلاني وثانياً إلى الحقائق التالية:
الحقيقة الأولى: أن أشرس أنواع الصراعات البشرية عبر التاريخ وأشدها فتكاً كانت حروب العقائد والمذاهب، لأنه باسم المذهب وتسييسه يمكن تحريم الحلال وتحليل الحرام وخلع العادل وتنصيب الجائر وتكفير المؤمن وتزكية الكافر. هذا ما أدركه الغرب بعد صراعاته المدمرة قبل قرنين من الزمان، فمنع بقوة القانون تدخل العقائد والمذاهب في أمور الناس المعيشية والفكرية والإبداعية.
الحقيقة الثانية: أن من أهم أسس التعايش داخل أي وطن قبول التاريخ القديم المشترك بخيره وشره، كمسؤولية يتشارك في تحملها الجميع. اصطفاء جزء من التاريخ وتزيينه والاحتفال به بهدف نبذ جزء آخر من نفس التاريخ وتشويهه، لا يمكن أن يقوم إلا على الشحن المذهبي وتجاوز كل الجوامع الوطنية الأخرى، وهذا يصب دائماً في مصلحة الأجنبي.
الحقيقة الثالثة: أننا هنا في المملكة العربية السعودية، إن أردنا مخلصين حقاً أن نتعايش ونتكامل اقتصادياً وأمنياً وثقافياً وعلمياً، بدون ممارسة التقية المتبادلة، فإنه عندئذ يتوجب على أتباع كل مذهب قبول تاريخهم العربي المشترك منذ بدايته في الجاهلية قبل الإسلام وصولاً إلى اليوم. ذلك القديم تاريخ مضى وانقضى ولا دخل للأجيال القادمة بنوازعه ونتائجه.
الحقيقة الرابعة والأخيرة: أن التعايش داخل الوطن الواحد لا يقبل ازدواجية الولاء بطريقة وضع يد في الداخل والأخرى خارج الحدود. هذه القناعة الشرطية تنسحب على حركات الإسلام السياسي والإرهاب المحسوبة على المذاهب السنية بنفس المقدار الذي تنسحب فيه على حركات الإسلام السياسي والإرهاب في المذاهب الشيعية.
نستطيع أن نستنتج الخلاصة في قول الحكيم الروماني القديم، إن كنت تريد إعمار روما لا تنظر بغضب إلى الخلف وانظر بتسامح إلى الأمام.