جميع الرسائل السماوية حملت رسالة أساسية واحدة، واضحة كما هي دعوة جميع الأنبياء، وهي توحيد العبودية لله الواحد الأحد، وتهذيب النفس البشرية، ليتعامل البشر على أساس هذه القاعدة أنهم جميعاً عبيدٌ لله وحده، وأنهم متساوون فيما بينهم، لا فرق بين صغير أو كبير ولا غني أو فقير ولا فرق بين لون وآخر أو جنس وآخر.
إن سنة التدافع التي فطر الله عليها البشر {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (251) سورة البقرة تمثل قانون التدافع القائم على أساس المصالح، ولذا وجب البحث عن التشريع أو القانون أوالنظام الذي ينظم هذا التدافع، على مستوى الجماعة الواحدة لينظم مصالحها ويحكم علاقاتها، هوكذلك على مستوى الجماعات المختلفة والمتباينة، وصولاً إلى جماعات الدول والكيانات التي تمثل هذه الجماعات على سطح الأرض، مما أفسح المجال لتنظيم العلاقات الدولية على أسس من التعاون والأمن والسلام للجميع والعيش المشترك.
إن المغالاة والتطرف، يقودان صاحبه إلى تكفير الآخر، وإلى التعصب المصلحي أو الفكري أو الثقافي أو العقائدي، مهما تستر المتعصب بطهرية خالصة أو مطلقة أساسها المبادئ السامية التي وردت في مختلف الديانات السماوية، أو النظريات والأيديولوجيات الوضعية، ويعتقد أصحابها والمؤمنون بها أنها تمثل القيم المثلى والمطلقة، فتدخل صاحبها إلى ساحة الغلو والتطرف والتكفير، وهذا لا يقتصر على جماعة أو دين أو ثقافة بل هو مرض قد تظهر أعراضه لدى أي جماعة في أي مكان أو زمان، وتصبح الجماعة المبتلاة بهذا الغلو والتعصب تبحث دائماً عن عناصر الاختلاف والشقاق بينها وبين الآخر، لتبرر أولاً انغلاقها على ذاتها وعلى ثقافتها وعلى معتقدها، ظانة أنها وما تؤمن به من فكر أو ثقافة أو اعتقاد محل استهداف دائم من الآخر مهما كان، سواء كان هذا الآخر من الجماعة ذاتها، أو من الجماعات المختلفة عنها في الثقافة أو الفكر أو العقيدة، ويقود هذه الجماعة أو هذه الفئة إلى الدخول في صراع داخلي، أو حرب مع الآخر، يغذيه تضخيمها لعناصر الاختلاف والتمايز عنه، ولا تستطيع تلك الفئات أو الجماعات أن ترى أو تجد المشترك مع الآخر مهما اتسعت دائرته، مما يقود إلى تدمير المجتمع وتدمير وحدته الوطنية وتفكك الدول، في حين أن البحث عن العناصر والمصالح المشتركة على مستوى الجماعة الواحدة، يقود إلى الوحدة الوطنية والتلاحم، ويجعل منها عناصر تفاهم وتوحد، تقود إلى التوافق الذي يجنب الجميع في الجماعة الواحدة كل أشكال الصراع الداخلي، والدلائل والشواهد على ذلك كثيرة في تاريخ الصراعات الداخلية داخل المجموعة الواحدة، وما تشهده اليوم العديد من الدول العربية من تصدع وتفكك لوحدة المجتمع والدولة إلا دليل على ذلك، فالتطرف والغلو والتعصب لن يقودا صاحبه إلا في اتجاه واحد وهو الفتنة القاتلة، أو الصراع الدامي والعنيف مع الآخر، والى إهمال كل مشترك بينه وبين الآخر، الذي يمكن أن يمثل حقل تعاون وتوافق بينه وبين الآخر ويجنبه الفتنة وآثارها المدمرة ويحقق له الكثير من المصالح التي يستحيل على التطرف أو الغلو تحقيقها، وهل هناك فساد في الأرض أعظم من فساد الفتنة والتكفير داخل الجماعة الواحدة ؟!!! أو داخل الجماعات والكيانات والدول المختلفة ؟!!!
إن انتشار فكر الغلو والتطرف، وبعث الطائفية السياسية من مرقدها، في العديد من الدول العربية، بات يهدد وحداتها الوطنية ووحدة مجتمعاتها بخطر الانشطار والتقسيم وإشاعة حالة الفوضى واغتيال الأمن والأمان والسلم المجتمعي، الذي كانت تنعم به هذه الدول ومجتمعاتها، لذا لابد من مواجهة حاسمة مع قوى الغلو والتطرف، فكرياً ومادياً، لردعها وإعادتها إلى صوابها، وحماية الوحدة الوطنية والمجتمعية للمجتمعات العربية منها ومن أفكارها، واستعادة الأمن والسلم الاجتماعي لها، وحمايتها من التفكك والحروب الأهلية التي باتت تعصف بالكثير منها، وأدت إلى انهيار دولها، فالتطرف والغلوهما الوصفة السريعة والمثلى لتدمير الوحدة المجتمعية والوطنية وتفكك الدول...!!!