يتميز المشهد الاجتماعي السعودي المعاصر بثراء غير مسبوق في الطرح الفكري المتنوع، وفي مجالات عدة ثقافية ودينية وسياسية واقتصادية وفكرية وفنية، وهذا الطرح الذي يبرز في مسارح الحياة العامة والمجالس الخاصة والشبكات الاجتماعية الالكترونية، يعكس تنوع في مصادر المعرفة وأساليب التفكير والتبرير و ويبين أثر الحرية الفكرية في الإثراء المعرفي والتغلب على قيود التعبير الفردية التي كانت في الماضي والتمكين الذي وفرته التقنية للفرد فبات بمقدوره الوصول لعدد كبير جداً من المتلقين بأرخص التكاليف، ومع أن هذا الطرح المتنوع للأفكار والآراء، إلا أن المجتمع لا زال متمسكا بممارسات قديمة في التفاعل مع الطرح الفكري الجريء والناقد لما يعتبرخطوط حمراء في التكوين الفكري الجمعي، هذه الممارسات تتمثل في الشخصنة والهجوم على صاحب الرأي والتقليل والتحقير وربما الاتهام بتهم تمس العقيدة والمواطنة.
قمع الرأي المخالف أو الناقد بالتحقير والتهجم الشخصي أسلوب قديم جداً، وكتب التراث متخمة بذلك، بل إن بعض تلك الكتب قائم في جله على التحقير والاتهام بالفجور والتكفير، لرموز كان لها أثر كبير في إثراء الحركة العلمية في عدة ثقافات، وهذا الأمر ليس مقصور على ثقافة بعينها أو أمة بعينها فهو سائد في تاريخ الأمم في شرق الدنيا وغربها، بل إن كثير من العلماء المحدثين والمكتشفين لكثير من الظواهر العلمية دفعوا حياتهم ثمن لما كانت مجتمعاتهم تعتقده سحر وهرطقة وكفر، والتاريخ شاهد أن معظم هذه الحوادث التي ذهب ضحيتها علماء أجلاء ابدعوا في إبراز قوانين الفيزياء والرياضيات وتطويعها لخدمة الإنسان كان خلفها جاهل صاحب سلطة أو مستبد يستشعر الخطر على مصالحه وقيمته في المجتمع من تنامي المعرفة بين الناس، فالصراع كان حاميا ولا يزال بين من يريد تقييد الناس بمحدودية فهمه وجبر خيارتهم بما يخدم مصالحه ومن يريد حرية المعرفة وازدهار العلوم، وسلاح الأول هو القمع والتكفير وسلاح الآخر هو الفكر والموضوعية.
السجال الفكري في واقعنا اليوم أفرز تصنيفات وتسميات هي إسقاطات لمعاني سلبية في الذاكرة الاجتماعية فليبرالي وفاشي ومتطرف وطائفي وعلماني وجامي وسروري، كلها تسميات يراد بها وصم الآخر بمعاني سلبية تقلل من قيمته الاجتماعية، وهذه التسميات في جوهرها قد لا تعبر عن من يوصف بها أو هي بعيدة كل البعد عن ذلك، ولكن مقتضى الحاجة للقمع الفكري جعل توظيفها أمر متاح، هذا إلى جانب أن هذا السجال الفكري خلط السياسي بالديني وبات الدفاع عن سياسات معينة وتوجهات إقليمة محددة يقتضي التوظيف الديني واستجلاب التراث العدائي بين الطوائف واستحضار شخصيات تاريخية كان لها صولات وجولات في زمانها.
إن ما يحدث اليوم من شخصنة لكل خلاف فكري هو قتل للموضوعية وهدر للطاقات في المشاحنات والمماحكات المثيرة للنزاع والعداء، فلو أن هذه الطاقات وجهت لمواجهة الحجة بالحجة والرأي بالرأي لأثرت في تكوين معرفة مفيدة ونقد بناء وتظافر في تمكين الوفاق الاجتماعي، ولكن هذا لن يحدث طالما أن منارات العلوم كالجامعات ومراكز البحث ودور المعارف موبؤة بشخصيات مؤثرة، لا تتقن سوى الشخصنة والقمع الفكري وترتقي على الآخرين بالتحقير والتكفير والتفجير، لذا نحن اليوم بحاجة لنزع سلطة هؤلاء وتيسير الموضوعية في الطرح الفكري وتمكين النقد بدلاً من القمع اللفظي والأدبي.