ثقافة الغفران الغائبة!

تفتقد مجتمعاتنا العربية - ومجتمعات أخرى بالتأكيد! - إلى ثقافة (الغفران). مع أن الله تعالى نفسه يصف ذاته بـ (الغفور) و(العفوّ) ويقول للمسيء استغفر يا مسيء!

ولو كانت المجتمعات العربية بطبعها تؤسس لثقافة الغفران لما عرف التاريخ ولا الخطاب الثقافي العربي قصة وأدَ البنات ولا الحروب المجانية مثل حرب (داحس والغبراء) التي استمرت طيلة أربعين عاما (عاما وليس يوما!) بسبب ادعاء عجوز من إحدى القبيلتين امتلاكها لـ (ناقة) سلبها أشقياء من القبيلة المضادة!

ولو كانت المجتمعات العربية تقرأ نفسها في مرآة التاريخ، لو كانت الثقافة العربية ترتكز على أسسٍ قويّة من معرفة النفس وتحليل المسار التاريخي للأحداث التي عصفت بالعرب طيلة تاريخهم - وحتى الآن - لما كانت أخبار الحروب العنصرية والطائفية والعرقية مستمرة ومسيطرة على كل نشرات الأخبار المتلفزة والمذاعة والمكتوبة والتي أفرزت (التجار الإعلاميين) الذين يجعجعون خلف الإستديوهات وأفرزت (الخاطفين) على الهوية. من أمثال الدواعش الذين انتخبوا ونصّبوا (أميرا للمؤمنين) وطالبوا المسلمين في كل العالم بمبايعته وطاعته طاعة عمياء لا حدود لها.

إن الغالب الآن على خطابنا الثقافي العربي هو: الرثاء والبكاء!، مثلما قال (المعلّم يوسف صايغ)

- فلا تبتغوني لكم بطلا،

إنني رجل ٌ حرّضته المنايا على نفسه! -

إن (الغفران) الذي يرفعه الله إلى مرتبة (إحياء الموتى) في قوله {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (32) سورة المائدة. الآية هو إن جازت الاستعارة الفريضة الغائبة في مجريات التاريخ والثقافة والخطاب العربي بسبب أن المجتمعات العربية تعاني من التخلف

والأميّة والأمية الثقافية وعدم اهتمام خطط التنمية التي تقوم بها الحكومات العربية بمسألة تأسيس مجتمعات لا تضمر الحقد على الآخرين ولا تحمل الضغينة على المختلفين وتؤمن بحق الاختلاف وتعتبر (الحوار) مدخلا ضروريا للعيش بسلام وطمأنينة وتضامن مهما تكن الرؤى متغيرة ومختلفة بل وتعتبر الحوار ضرورة حضارية للاستمرار في التقدم والتنمية والتطوّر وعدم النظر للوراء بل تركيز النظرة على البعيد والذي نظنه مستحيلا وما هو بمستحيل.

إن قطار الحياة يمضي ونحن عنه ساهون، وسادرون، ولا ننتبه إلا في حال فقداننا لعزيز، أو حدث ٍ يكون أحد الدروس (المقررة) علينا. بل إننا أحيانا نتابع نشرات الأخبار لنلتقط خبرا سيئا يصلح كمادة للتفكه أو الاستغراب أو حتى للشماتة (!). ولذا فإن مراجعتنا للقيم الخلاّقة في تاريخنا الثقافي وفي عمق ديننا - أعني الدين الحيّ لا ذلك الشكل (الوسواسي) من التدين الذي يهمل منعطفات وزوايا مهمة في حياتنا - فلو كنا نملك البصيرة لكان (الغفران) سلوكا واعيا لا مجرد لوحة منقوشة بالذهب نعلقها في مجالسنا ونحن عنها غافلون.

لقد وصف الله بعض عباده وحوارييه بـ {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} (134) سورة آل عمران. فمن ينتصر في الحياة التي ليست سوى اختبار لما سيتبعها من حيوات هو الذي إذا أغاظه أمر وأغضبه كظم غضبه بمعنى أخرَسَ نيران الغيظ، واختار ما هو أبقى!

إن المغفرة تعادل العفو - عند المقدرة - ولذلك لا نتحرج من طرح مفردة (غفران) كونها إحدى تصريفات - مغفرة - والله وحده يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

نحن مطالبون بقراءة قيَمِنا قراءة جديدة، متبصرة، واعية. لكي لا يصبح التاريخ الثقافي والسيوسيولوجي ألعوبة في يد منتحرين يظنون أنفسهم أصحاب قضية وما هم بذلك.

تعالوا إلى (الغفران)!