لو راجع كل واحد منّا نفسه وبحث في الأمور والقضايا التي يؤمن بها، ويعدها من المسلمات المطلقة عنده التي لا تقبل الجدل في مجالات حياته المختلفة لوجد أن القائمة طويلة وتطول، وبطبيعة الحال فهذه المسلمات أو الإيمانيات من البدهي أن تختلف مجالاتها، وتتفاوت درجاتها، من أمة لأخرى، ومن مجتمع لمجتمع، ومن إنسان لآخر، وهذا لا مشاحة فيه، ولا تثريب عليه، نظرًا لاختلاف مصادر التنشئة والتربية ومنطلقاتها الفلسفية.
وغالبًا ما يكون الاختلاف داخل الإطار الواحد سواء في بعده الأممي أو الجمعي أو الفردي في درجة الالتزام أكثر منه في نوع المجال المسلم أو المؤمن به، وقد تكون خارج الإطار، ولكنها في هذه الحالة تعد من ناشز المواقف والآراء التي لن تلق الاهتمام والتأييد، بل ستواجه بالمقاومة والرفض، وقد تؤدي إلى انقسام المجتمع وتدابره.
ومن المؤكد أن الإيمان عند كل إنسان لا يتحقق إلا بعد إدراك بلغ حد اليقين والتسليم، والاعتقاد الجازم والموافقة، فعندما يؤمن الإنسان بأمر، فإن عقله حتما سوف يتعرض لمفاهيم ذاك الأمر ومعارفه، حتى يتشبع بها، وتبلغ عنده درجة اليقين بصحتها، والتسليم لها، والاعتقاد المؤكد بصوابها، والموافقة التامة على معطياتها، ويعزز هذا ويدفعه ميل نفسي وجداني تواق لذاك الأمر، يحبه ويضحي من أجله بالغالي والنفيس حتى يتحقق بالصورة التي يتمناها، فيحرص على تثبيته والمقاتلة من أجله.
بعدئذ تأتي الممارسة والتطبيق العملي الذي يبدو في صور عديدة، وأساليب مختلفة، كل حسب طبيعته ومقتضياته، وبهذا تكتمل حلقة السلوك السوي، إدراك معرفي، يتبعه ميل نفسي عاطفي، يتبعه نزوع أي سلوك ينسجم مع طبيعة العاطفة (سلبًا أو إيجابًا)، هذه متتابعات لأزمة لتشكل السلوك الفعال، وإذا اختل الإدراك المعرفي سواء بسبب قصور في المعلومة، أو بسبب تشويه لها، يصاب صاحب السلوك باضطراب وخلل، تختلف صفته باختلاف شدته، مما يجعله خارج دائرة السلوك السوي، مما يعني أنه قد يتحول إلى سلوك مرضي، أي مرض نفسي أو عقلي حسب طبيعة الأعراض وشدتها.
لهذا فمن المؤكد أن كل إنسان لا تتوافق سلوكاته مع ما يؤمن به، يعد إنسانًا مضطربًا، لأن الاتساق بينهما والتوافق أمر حتمي، فالإنسان السوي يحرص على أداء كل ما يترجم ما يؤمن به ويحققه على أكمل صورة وأتمها، ولكن عندما يتبين أن سلوك الإنسان في وادٍ، وما يؤمن به في وادٍ آخر، فاعلم أن هذا الإنسان فاقد المصداقية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}الصف2-3.
يروي أحد المطلعين على الأوضاع في طجكستان عن أحد علمائها أنه بعد الاحتلال السوفييتي، وبعد ما تبين لهم من سطوته وإلحاده، تعاهد الطاجيك على جملة من الأمور أتى في مقدمتها حفظ القرآن الكريم والعمل به وتطبيقه في شؤون حياتهم كافة، وبهذا الحفظ والعمل حفظهم الله، فحافظوا على هويتهم ودينهم، وبعد اندحار السوفييت مارس الطاجيك دينهم علانية، وأحيوا تراثهم وقيمهم بالرغم من أنف محاولات التجهيل التي مارسها السوفييت.
البعض يفصل بين ما يؤمن به وما يمارسه في حياته اليومية، حيث يلحظ التساهل في الممارسة والتطبيق العملي لتلك الإيمانيات، وهذا الفصل أو الانفصام يعد حالة مرضية على من يعاني منها مراجعة نفسه ومحاسبتها وقهرها في كل سلوكاته على ما يتوافق وينسجم مع تلك الإيمانيات.