أرادوها ـ حسب زعمهم وخططهم وآمالهم ـ فوضى خلاقة، أي فوضى تفضي إلى واقع آخر جديد غير الذي ألفوه وخبروه وسئموا من ممارساته التي استنفدت أدوارها وأغراضها، أرادوا هذه الفوضى أن تصنع واقعا جديدا مغايرا لسابقه الذي يبدو أنهم ملوا منه، أو أنه أدى الدور المناط به وبالتالي لابد من تغييره، سواء في بعده التنظيمي السياسي، أو القائمين عليه الذين يتشبثون بمقاعد الحكم لدرجة يتعذر فهمها وتصديقها، فعلى البعد التنظيمي تم تناسي تداول السلطة، وحل مكانها استئثار فئة قليلة بصورة ضيقة مغلقة محكمة لا تسمح للغير بالنفوذ إلى دوائر السلطة، وبأساليب تسوغ التزوير والكذب والخداع، أما القائمون فعدوا أنفسهم سلاطين زمانهم، وأنهم الأولى بالبقاء في السلطة وتداولها في دوائرهم التي رتبوها وصنعوها بطريقة تضمن بقاءهم على رأس السلطة مرات تلو مرات وبطريقة توحي أنها نظامية وشرعية.
حدث هذا في الدول ذات النظام الجمهوري الذي يرفع ـ زورا وبهتانا ـ شعار تداول السلطة، حيث ضربت هذه الأنظمة مفاهيم وأعراف وممارسات تداول السلطة المعروفة قيمها وأساليبها عرض الحائط، وقد ثبت ذلك من خلال الانتخابات الصورية التي تجرى بصفة شكلية، بينما نتائجها معروفة مسبقا، وبنسب عالية لا يتقبلها العقل ولا المنطق، إنها 99 % وأخواتها التي غدت مضرب المثل في الاستخفاف بالعقول والتلاعب بها، والعجب أن هذا تم خلال عقود متتالية لم يجرؤ أحد أن يعترض عليها أو يقاومها.
بعد تلك السنوات العجاف من التشبث بالحكم، وفساد الإدارة، وصور الإحباط واليأس التي بدت ملامحها تبدو في سلوكات الشعوب المغلوبة على أمرها، والمخدوعة بآمال طال انتظارها، حيث تبين لهذه الشعوب المحبطة أن هذه الأنظمة استنفدت أغراضها، وبالتالي لابد من إزاحتها عن الواجهة، واستبدالها بأنظمة رشيدة علها تكون خيرا من سابقتها، أنظمة تحقق العدالة وتداول السلطة بحق وحقيق، أنظمة تخاف الله وتخشاه وتتقيه، أنظمة تعنى بتكوين الإنسان وتأهيله ليكون عضوا منتجا نافعا، يسهم بجهوده ومهاراته وقدراته ونجاحاته في تنمية مجتمعه، ورفاهية أسرته، بدل حالة الإحباط والاستجداء التي أدت إلى الخنوع للغير، والعيش خارج أطر الكرامة الإنسانية ولو بحدودها الدنيا.
وجد المتربصون في حالة اضطراب الشعوب وتململها، ضالتهم التي خططوا لها، وتطلعوا إليها منذ زمن، ليتكئوا عليها في تحقيق التغيير المطلوب، فسعوا إلى استثمار تلك الحالة، بالتشجيع والدعم المادي والمعنوي، على مظنة أن هذه الفوضى التي وصفوها بالخلاقة سوف يتمخض عنها الواقع الجديد الذي يحلمون به، ويخلصهم من الماضي بكافة صوره، أنظمة وقيادات.
ولكن الرياح جاءت بما لا يشتهي السفن، حصلت الفوضى، لكنها فوضى اختلط فيها الحابل بالنابل، فإذا هي فوضى خلاطة، لم يعد يعرف فيها الحق من الباطل، الصحيح من الخطأ، الكل يدعي وصلا بليلى، الكل يدعي أنه الأقدر على تولي زمام الأمور، وتحقيق الطموح، تنازعوا ففشلوا، ولم يستطيعوا إدارة الدولة حتى في أبسط المرافق التي لا تتطلب قدرة وخبرة.
الفوضى لا تنتج إلا فوضى، وحرق المراحل والقفز من النوافذ إحدى صور الفوضى التي يتمخض عنها أوضاع يستحيل السيطرة عليها، وبالتالي لا بد أن تؤتى البيوت من أبوابها، وأبواب التغيير تبدأ بإعداد الشعوب وتعريفهم بأدوارهم وواجباتهم وحقوقهم، وترسيخ مفهوم المصالح العامة مقدم على المصالح الخاصة مهما كانت درجة أولويتها وأهميتها وقيمتها سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات.